ثلاثة أسئلة وإجابات مقترحة بشأن ما يجري من امر التسوية السياسية!


ثلاثة أسئلة وإجابات مقترحة بشأن ما يجري من امر التسوية السياسية!

د. أمجد فريد الطيب

بشكل عملي، تجري مسارات متسارعة على ارض الواقع ومن قبل عدة جهات نحو فرض تسوية سياسية فوقية، تنهي وضعية وتوتر اللا حرب واللا سلم المستمرة في المناطق الثلاث (دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان/جبال النوبة)، وتخلق تغييرات جزئية محدودة جدا في معادلة السلطة، بما يعكس توازن الضعف السائد في البلاد. المؤتمر الوطني (حزب الرجل الواحد) يشتري في هذه الصفقة فترة انتقالية جديدة طويلة تخرجه من مأزق انتهاء الدورات الانتخابية للبشير، وتضمن له الاستمرار في مقعد الرئاسة لفترة انتقالية لمدة تتراوح بين ٥ سنوات الي عشرة سنوات على الاقل، من دون وجع راس انتخابات او غيره وبعدها يكون (صفر العداد) ولو مد الله في الاعمار يلاعب الشعب السوداني (انتخابات انتخابات تاني). وبالإضافة الي ذلك يحصل المؤتمر الوطني على تذكرة لبوابة دخوله للانفتاح على المجتمع الدولي الذي أصبح يحتاجه كعضو راشد في (الاسرة الدولية) يقوم بخدمة مصالح مهمة. ويدفع مهر ذلك رشاوي سياسية تتمثل في مناصب سيادية -من غير سيادة- ولكنها غير فاعلة عمليا وغير ذات جدوى حقيقية في تنفيذ اَي تدخلات ذات أثر إيجابي على حياة الناس في السودان، في ظل استمرار سيادة منهج وسياسات المؤتمر الوطني في الإمساك بمفاصل الأمور في السودان، خصوصا بعد تجديدها في النسخة المعتزوغوبلزية الحالية. معتز رئيس الوزراء ذات نفسه -وهو ليس مقارنة ببقية السودانيين اجمعين فحسب بل هو ليس حتى أكثر الاسلاميين تأهيلا لتولي هذا المنصب- دلالة على ذلك... فالشاهد ان مؤهله الوحيد لتولي هذا المنصب هو قربه او بالأصح قرابته لعائلة الرئيس البشير الذي أصبح من الواضح انه يريد فرد من الاسرة في دائرة صناعة القرار السياسي ويمكن الاعتماد عليه كبديل رئاسي محتمل في حالة فشل خطط استمرار البشير لحماية الاسرة ومصالحها.

وبالطبع فان ما يحدث يثير (او يجب ان يثير) ثلاثة أسئلة رئيسية.

الاول: هل يمكن بفعالية واقعية مقاومة هذه الاتجاهات المتسارعة والعمل على خلق نموذج بديل لحل سياسي أكثر ارتباطا بحياة الناس ...

الإجابة الواقعية المؤسفة ... هو انه لا... وذلك لعدة اسباب!
الاول ان التدخل الدولي لإيقاف حالة اللا حرب واللا سلم تجاوز مرحلة التوسط العنين الذي كانت تقوم به الآلية الافريقية، ليصل الي مرحلة الضغوط المباشرة على حركات المقاومة المسلحة. هذه الضغوط لم تبدأ اليوم... فالولايات المتحدة الامريكية مثلا ومنذ نهايات ٢٠١٦ تُمارس ضغط اشبه بالابتزاز على الحركة الشعبية بعد ان رفضت الاخيرة مقترحها الذي تمت تسميته بمقترح توصيل المساعدات الانسانية... والحقيقة ان المقترح الذي رفضته الحركة الشعبية حينها لم يكن مقترح متكامل لتوصيل مساعدات انسانية تشمل ما يحتاجه أهالي المنطقتين فعلا... بل كان لتوصيل ما تم تسميته بمساعدات طبية محدودة (اَي ولله مكتوب كدا مساعدات طبية محدودة) ويتم توصيلها عبر سوبرمان ال USAid دون طرح اَي ضمانات او تصور عملي ... وقد اخطأت الحركة الشعبية حينها عندما جعلت رفضها حينئذ متعلق بشكلنيات الجانب العملياتي من الطرح، والنقاش حول نقاط الدخول والخروج والاجلاء والي ما غير ذلك، بدون مناقشة واقعية تنفيذ وفعالية ذاك العرض اصلا... فالحقيقة ان وكالة المساعدة الامريكية USAid لا تستطيع اصلا تنفيذ ما كان مطروحا من واقع حداثة وضعف مكتبها وأدواتها اللوجستية في الخرطوم (وهو مكتبهم الذي كان مقترحا لتنفيذ العملية والإشراف عليها) بالإضافة الي ان حوجة أهالي المنطقتين ليست للمساعدة الطبية المحدودة ( والتي كانت متوفرة الي حد ما عبر جهود المتطوعين والمنظمات المدنية الدولية وغيرها)، ولكنهم يحتاجون الي الغذاء والتعليم وغير ذلك من ادوات كسر الحصار التجويعي الذي تفرضه عليهم الحكومة... وهو الامر الذي دفع الأمريكان، ومن خلفهم وبين أيديهم المجتمع الدولي مؤخرا للتراجع عن طرحهم ذاك واستعراض طرح جديد لإيصال المساعدات وإدارة العملية الانسانية عبر منظمة الغذاء العالمي WFP التي تملك القدرة اللوجستية والمعرفة العملية لإدارة مثل هذه العملية. وهو ما تمت الموافقة عليه من كافة الأطراف.... فما هو معقول هو بالضرورة مقبول على حد تعبير الامام ابن رشد. وكذلك اخطأت الحركة الشعبية مرة اخرى عندما تركت تفاصيل العرض الامريكي في السر بدلا من عرض هذا العرض المعيب شكلا وموضوعا حينها على الشعب السوداني. وهو ما منح الحكومة واخرين كثر من بينهم المبعوث الامريكي السابق للسودان (والأخير بعد الغاء المنصب في عهد ادارة ترامب)، والذي اختار ان يجعل اخر أعماله الدبلوماسية هو توجيه إهانات واتهامات مفتوحة لكافة اطياف المعارضة السودانية غضبا من رفض عرضه السري حينها، فرص للمزايدة على موقفها من (توصيل المساعدات الانسانية). المهم انع بعد ذلك الرفض الإجرائي، بدأت الولايات المتحدة في ممارسة الضغط والابتزاز والتدخل السافر ضد الحركة الشعبية ونداء السودان والمعارضة السودانية ككل. (لتساهم في تعميق انقسام الاول، وتضغط على الثاني للقبول بأطروحاتها التقسيمية للمشكلة والانهزامية للمؤتمر الوطني، وتواصل نشر دعاية عدم فعالية الاجماع الوطني والدعوة لتحجيمه). ألمانيا وبريطانيا وفرنسا لعبوا ادوار مشابهة بأوزان مختلفة في أوقات مختلفة أيضا.
الجديد في هذه الضغوط هو دخول لاعبين إقليميين الي الساحة ... أبرزهم حكومة جنوب السودان التي ترتبط بعلاقات قوية بكافة اطياف المعارضة المسلحة، الي درجة الا تستطيع لمطلبها رفضا... وجنوب حكومة سيلفا الان يحتاج ليس الي رد تحية وساطة السلامة لحكومة البشير فحسب، ولكنه يحتاج أيضا الي إيقاف الحرب في المناطق الحدودية بين دولتي الجنوب والشمال ليضمن انسياب تصدير البترول بشكل سلس... وهو ما ينهي اَي عمق استراتيجي للنضال المسلح تحتاجه الحركة الشعبية لمواصلة القتال في تلك المناطق المغلقة بين الدولتين. ذلك ناهيك عن التغييرات الإقليمية الرامية الي الاستقرار في اثيوبيا واريتريا والتي تأخذ حدود النيل الأزرق مع اثيوبيا خارج المعادلة تماما خصوصا مع التداخلات الخليجية (الاماراتية والسعودية) التي تنظر باهتمام الي امن البحر الأحمر والفوائد الاقتصادية لموانيه بما يجعلها لا تتردد عن دعم اَو الضغط من اجل اي تقارب للحكومة سوداني مع الدولتين. وعلى جانب اخر فقد اثرت المتغيرات الإقليمية في ليبيا وأفريقيا الوسطى وتشاد الي حد ما على فعالية عمل حركات المقاومة المسلحة في دارفور... وكذلك نجح النشاط الدبلوماسي المحموم للحكومة السودانية في نشر نزعة (إرهاق دارفور Darfur Fatigue)، الي الدرجة التي حدت بالمنظمة الأممية للبدء بشكل فاعل في سحب بعثة السلام الدولية يوناميد، وبدعم كبير من الدول الغربية والأوروبية على وجه الخصوص التي تستعمل الحكومة السودانية ملف الهجرة عبر أراضيها (والذي تستخدم فيه نفس ميليشياتها المقاتلة في دارفور (الدعم السريع) للسيطرة عليها) لابتزازهم بفعالية دبلوماسية عالية. على جانب اخر من المشهد، اثرت الانقسامات الكبيرة في صفوف المقاومة المدنية بين قوى الاجماع ونداء السودان على فعاليتها النضالية، بالإضافة الي عدم تعاملها المسبق بالجدية اللازمة مع العمل الجماهيري في فترات نهوضه (بين ٢٠١١ و٢٠١٣) مما ادى الي فقدان الثقة الجماهيرية في تنظيماتها الرسمية بشكل كبير. هذه الصورة القاتمة يزيد من سوءتها وضع الازمة المعيشية الذي يعيشه المواطن. والذي يعتبر انعكاس مباشر لسياسات الحكومة في رفع يدها عن مسئولياتها العامة وتركيزها على الصرف الأمني والعسكري للمحافظة على وجودها برغم الأزمات... هذه الازمة المعيشية مقروءة في ضوء فقدان الثقة في المعارضة المدنية المنقسمة على نفسها والغارقة حتى شحمة أذنها في خطاب السياسة الفوقية الذي لا يطرح حلول قاعدية مباشرة لقضايا الناس الحياتية اليومية، بالإضافة الي العنف المفرط الذي تم استخدامه في قمع هبة سبتمبر ٢٠١٣، كلها أدت الي تقليل احتمالات نجاح المعارضة في التغيير عبر الاحتجاج المدني الجماهيري، وهو ما ادى بدوره الي تقليل اسهمها في طرح او الوقوف في وجه او تعطيل اَي تسوية مطروحة على الساحة. خصوصا انها تركت قضية المناطق المتأثرة بالحرب (وهي القضية الأكثر اشتعالا في اذهان الوسطاء الدوليين)، قضية حصرية للحركات المسلحة دون ان تعمل على وضعها في مكانها الطبيعي كأولوية مقدمة لعملها السياسي، بما جعل التوسط والتفاوض حول قضايا تلك المناطق يتم مع الحركات فقط وحسب مقدار قوتها العسكرية وليس مطالبها وقضاياها السياسية.

السؤال الأساسي الثاني
هو هل ستحقق هذه التسوية اَي فوائد حقيقية للشعب السوداني او لعملية التغيير الديموقراطي في البلاد ...!
الإجابة المباشرة والمؤسفة هي أيضا لا!

هذه التسويات المتعددة لا تخرج كلها من عباءة الإقرار الامر الواقع، ولن تحوي في ذاتها -بفرضية استمرار إنتاجها عبر المناهج السياسية السائدة حاليا- اَي فوائد إيجابية لأهل السودان. هذه التسويات المطروحة لن تخرج عن كونها تسويات سياسية فوقية تدخلها الحكومة وهي محملة بزكائب لا تنتهي من الرشى السياسية لتوزعها على الجميع الا من ابى، وعسى ان يقر في خاطر مفاوضي المعارضة ان يأبوا جميعا. الشيء الإيجابي الوحيد الذي قد يتحقق جراها هو وقف حالة الحرب -او وقف حالة اللا سلم- السائدة في الأطراف. وحتى هذا الوقف للحرب فهو سيتم بتسويات عسكرية يحكمها توازن القوى على الارض وضغوط الوسطاء الدوليين والإقليميين، ولن يتم بحل الجذور الحقيقية التي أدت للحرب في المقام الاول... سيتطلب ذلك الحل الجذري عملية سياسية معافاة وذات امد سياسي اطول من نفس التسويات السياسية سريعة الطبخ. وأخطر ما يمكن ان يحدث فيها هو ان تلوح الحكومة من زكائب رشاها السياسية بكروت مثل تقرير المصير تكسر بها رافعة سقف تفاوض الطرف الاخر. فالنظام حقيقة لا تعنيه وحدة السودان ولا عدالة توزيع الموارد فيه خصوصا على الأقاليم الأكثر فقرا... وربما يرى أحد متذاكيه ان التخلص السلس من (عبء) هذه الأطراف قد يكون أفضل من الاحتفاظ بها والدخول في خشونة مزالق تنميتها وتحقيق عدالة توزيع الموارد وحقوق المواطنة فيها.


السؤال الثالث وهو الأهم على الاطلاق ... هو سؤال الرفيق اليتش، ما العمل؟

ان الإجابة الصحيحة على سؤال ما العمل في الوضع الحالي، يتطلب منا الرجوع الي بديهيات أساسية في العمل السياسي، اولها ان العمل السياسي ليس تفريغا لضغائن ولا سعيا وراء رغائب... بل هو تحليل الوقائع الملموسة من اجل الخلوص الي مدى الإمكانيات المتوفرة واستخدامها لتحقيق أكبر قدر من المصلحة العامة للجماهير التي يرغب السياسي في خدمة مصالحها. والشاهد الان ان القوى السياسية الوطنية كلها تدرك وتعيش حجم الازمة المعيشية الخانقة التي يعيشها الشعب السوداني في المركز والأطراف، والتي تنتهك حقوقه الاساسية في الحياة والتعليم والصحة والضمان الاجتماعي وتمتهن كرامته وإنسانيته وحاضره ومستقبله في اليوم ألف مرة. والتبرير هنا بان ما يحدث هو من فعائل النظام وان كان يرضي الذات ويريح الضمير السياسي فهو لا يجدي من واجبات العمل شيئا... فالنظام هو العدو الذي نحاربه ونناضل ضده ولا أظن ان احدا ينتظر منه ان يفض بنفسه خيط مغزله الذي نسج منه حبل مشنقة لشعبنا ... وإلا ففيما التضحيات الجسام التي ما فتئت تقدمها قوى المعارضة كل حين؟! المحك هو ما الذي ستفعله -او يجب ان تفعله- القوى الوطنية المعارضة لتحقيق واجب الخدمة العامة الذي امتهنت من اجله العمل السياسي فِي ظل وقوعنا أسري لتسوية اضطرارية مفروضة بحسابات لا نملك لها من الواقع دفعا؟

اهم ما يجب فعله هو رفض الرشى السياسية التي ستأتي محملة بزكائبها وفود تفاوض المؤتمر الوطني. هذه الرشى التي سيتم تسميتها بمعادلات قسمة السلطة، ستكون محض عطايا مزين لا تسمن بسلطة ولا تغني بسياسة. ولن تكون سوى وظائف ادارية مختومة بوسم قابيل الذي رسمته جرائم ثلاثين عاما من القمع والقهر والفساد والاستبداد. ما يجب ان يركز عليه التفاوض مع المؤتمر الوطني لا يجب ان يكون هذه الرشاوي منزوعة الدسم، مهما تم منحها من بريق الاسماء اللامعة، بل ينبغي ان يتركز في أمرين: الاول هو تحقيق مكاسب مادية لبنى تحتية حقيقية في المناطق المتأثرة بالحرب: على وفود تفاوض الحركات المسلحة الاهتمام بإعداد كتاب مطالبهم القاعدية عن كم مدرسة يجب بناءها في تلك المناطق، كم مستشفى ومركز صحي يجب إنشاءه، كم كيلومتر من الطرق يجب رصفه وسفلتته، كم فدان يجب استصلاحه وتمليكه للمواطنين المتضررين، كم منزل وقرية ومدينة يجب اعادة بناءهم وتأهيلهم، كم طفل يجب إلحاقه بالتعليم النظامي بعد انقطاع ستة أعوام او تزيد، وكم الذين يجب تطعيمهم ضد أمراض الطفولة، كم من المواطنين يجب تعويضهم بقدر ماذا بشكل مباشر وماهية وطبيعة التعويضات غير المباشرة للآخرين المتضررين من الحرب... الي اخر القائمة الطويلة الممكنة من المطالَب القاعدية التي ستحملكم شعوبكم فوق رؤوسها لو نجحتم في انتزاعها من براثن النظام ثمنا لحرب وحروب تطاولت امادها. هذه الحقوق الاساسية والطبيعية في زمننا وعالمنا المعاصر اليوم، يجب تحقيقها بأعجل ما يكون لمواطني الأطراف المتأثرة بالحرب. ولابد من التخلص من وهم ان تلك المناصب الكرتونية -او بقايا الجيوش المتصالحة أيضا- يمكن لها ان تكون ضامناً لتطبيق التزامات الاتفاقيات المبرمة. فترة نيفاشا الانتقالية اثبتت خطل هذا الافتراض. فهذه المناصب تجعل أصحابها جزءا لا يتجزأ من الدولة التي تديرها سياسات المؤتمر الوطني وتسيطر عليها وتجعلهم جزءا عضويا من آلية اتخاذ قرار لا يتحكمون في صناعته. والجيوش المتصالحة تخضع بقوانين العسكرية لقياداتها المدمجة او تكون خارج دائرة الفعل السياسي رهينة للقرار الصعب بالعودة الي الحرب، وهي الوسيلة التي اثبتت مرارا وتكرارا محدودية قدرتها على إنجاز واجبات التغيير الايجابي. الضامن الوحيد والأكبر والأكثر فعالية لتحقيق المخرجات المناطقية من هذه الاتفاقيات هو الالتفاف الشعبي والجماهيري حولها، وهذا لا يتحقق بدون منح الجماهير ما تريده وتحتاجه عاجلا ... ان يكون ثمن الحرب هو مكاسب مادية مباشرة لمواطن المناطق المتأثرة بها وليس مجرد تعديلات في هياكل السياسة الفوقية. وايضاً فهذه المكاسب إن تحققت ولو بشكل جزئي هي التي ستمنح الحركات السياسية المسلحة القاعدة الجماهيرية التي تحتاجها في مرحلة ما بعد الحرب. فالناس هم ذخيرة سلاح السياسة المدنية التي تعود اليها الحركات المسلحة، وهي لو تم الاعتناء بنا كما يجب لهي أكثر مضاءا وفعالية بما لا يقاس من رصاص البندقية. الامر الثاني الذي يجب ان يكون إنجيلا لمفاوضي الحركات، هو الحرص على فرض مساحات معقولة وحقيقية من الانفتاح في الوضع السياسي، تسمح لهم بمواصلة العمل السياسي بين الناس في الميدان الجديد، خصوصا لو استطاعوا تحقيق المكاسب السابقة. فتح الفرص لميدان تنافس سياسي مدني هو الأمل الوحيد في عملية تغيير مستقبلية طويلة الأمد. وهو ما يجب ان تحرص عليه وتدعمه التنظيمات السياسية المدنية أيضا. انفتاح هذه المساحات السياسية وضمانها سيسمح بمراقبة سياسية فاعلة للأداء الحكومي في مجالات الاقتصاد، والحقوق، والخدمات العامة وغيرها... وهو ما تحتاجه المعارضة بكافة فصائلها لجمع قاعدتها الجماهيرية حولها وتحسين وتطوير أداءها... ولا يتطلب ذلك مناصب تنفيذية على الاطلاق. وبالطبع ستبقى قضايا العدالة والمحاسبة وحقوق الضحايا من القضايا المؤرقة التي يجب مخاطباتها بحلول مرضية للضحايا أنفسهم ولذويهم في ذاتهم وليس لمن ينوبون عنهم أيا كانوا... وهي المعادلة التي تتطلب من القوى السياسية وضعها في البال وفِي الخطاب السياسي على الدوام في صياغة اَي بيئة معافاة للعمل السياسي.

ان أسوأ ما قد يفعله اَي سياسي على الاطلاق، هو الكذب على شعبه او محاولة تضليله بطرح الخطاب الرغبوي الذي قد يصفق له المستمعون ولكن لا يستطيعه السياسي... الصدق مع الشعب فيما يريده ويستطيعه السياسي هو الفضيلة الوحيدة التي قد تنجيه من التهلكة. شاهدنا ما يحدث جراء التضليل والكذب ومداعبة المشاعر بدلا عن مخاطبة العقول مرارا في التاريخ السوداني... بل وحتى على صعيد العالم المعاصر شاهدنا نتائج التضليل والكذب السياسي في ارتفاع نعرات الشعبوية والقومية حول العالم من انتخاب ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي وحتى سيطرة اليمين المتطرف على المسرح السياسي في الغرب. ان أفضل ضمان لمخرجات عملية سياسية هو ان تجري كافة تفاصيلها تحت الضوء وفِي العلن... يحرسها الشعب ويسدد خطاها. وما قدرية سيزيف التسوية القادمة برغم انف امال شعبنا الا نتيجة لمسلك سياسي خاطئ اعتاد الحديث بلسانين أحدهما للغرف المغلقة واخر لوسائط الاعلام وأغراض التعبئة. السودانيون يستحقون أفضل من هذا.


Comments

  1. مقال عميق د.أمجد فريد
    شديد الواقعية حتى بدا متشائما
    لقد كان خطأ القوى السياسية الفادح أنها عولت على المجتمع الدولي أكثر مما ينبغي
    وانعزلت عن الجماهير بدرجة كبيرة وفاقم من عزلتها القمع الأمني
    قبل تنظيم الجماهير نحتاج كقوى سياسية لتنظيم أنفسنا وأن نتقدم الجماهير في مقاومة سلمية تفصح للجماهير عن تجردنا الحقيقي وتأخير مصالحنا الشخصية حتى نسترد ثقة الشعب

    ReplyDelete
  2. مقال أكثر من رائع د امجد .. كل الشكر للمجهود الجبار في قراءه الواقع السياسي الآن .. نحن المواطنون البسطاء التعن حرمنا من تخبط الحكومه وبطشها وبين انبطاح المعارضه وتشتتها وفراغها .. رغم ان قراءاتك منطقيه الي حد كبير لكن اتمني ان لا تصدق لنهنأ ولو بسنين من الامن والاستقرار والرخاء

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

Sudan’s Votes and Violence; the high road to Somalia

تقدم وخدمة الاجندة الحربية لمليشيا الدعم السريع والإمارات

كلمات قاتلة: كيف تم استغلال التضليل وجهود المناصرة الإنسانية للتمهيد للهجوم على معسكر زمزم للنازحين في شمال دارفور