حكاية اللورد جيرمي بورفس وغضبه الانتقائي تجاه الدمى

 

حكاية اللورد جيرمي بورفس وغضبه الانتقائي تجاه الدمى

أمجد فريد الطيب

في جلسةٍ حديثة لمجلس العموم البريطاني، أدان اللورد جيرمي بورفس بحماسٍ ما أسماه «تعيين رئيس وزراء مدني دمية» بواسطة قائد الجيش السوداني. وادان ترحيب الاتحاد الأفريقي لهذا التعيين، ثم تطرق إلى مخاوف (دون أن يذكر مصدرها) من احتمال الاعتراف به من قبل الأمم المتحدة. وقد رحبت أيضًا الإيغاد وجامعة الدول العربية بهذا القرار، لكن يبدو أن تلك المنظمات «العالم ثالثية والمتخلفة» ليست ضمن نطاق مخاوف اللورد. ثم بعد ذلك ناشد اللورد جيرمي حكومة المملكة المتحدة، بصفتها «حاملة القلم» في ملف السودان بالأمم المتحدة، أن تفعل كل ما بوسعها لمنع منح هذه الحكومة الشرعية الدولية، كل ذلك تحت شعار دعم المدنيين السودانيين. ويا له من مبدأ نبيل!

لا بد من ابداء الإعجاب، طبعًا، بخبرة اللورد جيرمي بورفس العميقة فيما يخص العاب الدمى والانتقال الديمقراطي. وهي خبرة بلا شك أنها نُضجت في واحد من أقدم البرلمانات في العالم. ومع ذلك، قد يتساءل المرء بلطف: أين كان هذا «الغضب الليبرالي» حينما ادمنت حكومة بلاده التصرف كمحض دمية للإمارات فيما يخص السودان؟

في أبريل 2024، قام نائب رئيس الوزراء البريطاني أوليفر داودن برحلة سرية إلى بلاط الإمارات. طلباً للسماح والغفران بعد الغضبة المضرية الاماراتية جراء ما اعتبرته عدم كافي من المملكة المتحدة للإمارات في مواجهة الشكوى السودانية حول تسليح ودعم الإمارات لمليشيا قوات الدعم السريع. وقد صنفت الأدلة المتوفرة على الدعم الاماراتي للمليشيا بانها «موثوقة» حسب تقرير فريق الخبراء المستقل للأمم المتحدة في ذلك الوقت. والمليشيا متخصصة بسمعة جابت الافاق في المجازر والاغتصاب والتهجير، أي ضد المدنيين الذين يزعم اللورد جيرمي دعمه لهم. ولكن تعليق الإمارات الاجتماعات الوزارية رفيعة المستوى مع المسؤولين البريطانيين، كان كافيا لنائب رئيس وزراء حكومة صاحب الجلالة لغض النظر والذهاب في «رحلة تكفير» إلى أبو ظبي طلبا للغفران. هذا كله لم يحظَ بتدقيق برلماني حول الدمى في سجل اللورد جيرمي البرلماني تجاه السودان.

من باب التذكير، وثّقت صحيفة التايمز هذا الإذلال علنًا هنا

 https://www.thetimes.com/uk/politics/article/uae-cancels-meetings-britain-row-sudan-civil-war-sxlhxwhtw

والقصة تمضي لما هو أكثر.

فبينما يردد اللورد جيرمي أشعاره عن دعم المدنيين السودانيين في مجلس العموم، كان الأجدر به أن يسأل حكومته في برلمان بلاده عن مضايقة وسائل الإعلام الانجليزية والضغط عليها لتصمت حول تسليح الإمارات لقوات الدعم السريع وهي تواصل ارتكاب انتهاكاتها المتكررة ضد المدنيين. وربما كانت التقارير حول ذلك قد فاتت على لورد جيرمي ربما وسط انهماكه الكبير بالانشغال بدعم المدنيين في السودان. ونوردها مجددا لعل تحظى باهتمامه لمناقشتها في البرلمان الانجليزي:

وقد يكون من المفيد من قبل لورد جيرمي، في ظل حرصه النبيل على ألا ينتهي السودان إلى رئيس وزراء دمية، أن يمتد هذا الحرص نفسه إلى ناخبيه في بريطانيا. فبصفته عضوًا مبجلاً في البرلمان الانجليزي، فان مسؤوليته الاولى ربما تكون باتجاه ضمان ألا تصبح حكومة المملكة المتحدة دمية في يد دولة أجنبية تشن حربًا بالوكالة في النصف الاخر من العالم.

ينبغي أيضًا تذكير صاحب السمو لورد جيرمي بأن تعريفه لـ«دعم المدنيين السودانيين» لم يشمل جميع المدنيين على الإطلاق، ولا حتى اقتصر على كونهم مدنيين في المقام الأول. فقد ظل هذا التعريف محصورًا بدائرة معينة من السياسيين (مدنيين وعسكريين على حد سواء) الذين عمل على دعمهم فعليًا في منصبه المدفوع الأجر لدى جلوبال بارتنرز جوفرنانس (GPG). وهي المنظمة نفسها، التي استمرت في التوفير الدعم الفني والمادي لتحالف تقدم — التحالف، الذي ليس من المستغرب، ان يرأسه لا غير رئيس الوزراء السوداني الأسبق عبد الله حمدوك، المقيم حاليًا في الإمارات التي تشن حربًا ضد بلده الذي حكمه بعد ثورة شعبية! أيُّ دمى هذه؟ أم أن “دمى الإمارات” لا تُحسب؟ لأن اللورد جيرمي، بلا شك، سيتفق على أن ليس كل الدمى خلقت متساوية. خاصة عندما تكون اليد الخفية لتحريك الدمى، قد صقلت اناملها في أبو ظبي.

حمدوك الذي انتهت ولايته ليست بانقلاب، بل باستقالة، يضم تحالفه المدعوم من GPG ليس مدنيين فقط بل حركات مسلحة وأنصارأً علنيين للجنجويد/قوات الدعم السريع — بعضهم انشق لاحقًا ليشكّل تحالف تأسيس الجديد، الذي يسعى الآن إلى تفتيت السودان. ومع ذلك، استمرت «GPG» في تقديم الدعم الفني (وربما قنوات الدعم المادي) لبقايا معسكر حمدوك، الذي تمت إعادة تسميته الآن بـ«تحالف صمود». كل هذا كما لو لم يحدث شيء. وكأن الدعم السابق لم يمنح الجناة من المجرمين رأس مال سياسي وغطاءً مؤسسيًا ومشروعيةً تغريهم بمواصلة ارتكاب الفظائع — المجازر والتهجير والعنف الجنسي. وعندما يُسأل أحدهم عن هذا الدعم، يكون الرد الملطف والملائم دائمًا: «لم نكن نعلم».

حسنًا، إذا كان الجهل هو التفسير، ألا يستحق على الأقل وقفةً للتفكير؟ لحظةً للمحاسبة الصادقة؟ ألا ينبغي إعادة تقييم قبل إصدار أحكام شاملة مبنية على تحيّزات معرفية وأطر أيديولوجية تبدو ناقصة عندما نواجه الحقيقة؟ أم أن دعم المدنيين بالنسبة للورد جيرمي يعني دعم جميع المدنيين؟ إلا أن، وكما قال أورويل، «بعض المدنيين هم أكثر مدنية من الآخرين»، بشرط أن يحملوا الصبغة التي يوافق عليها القلم البريطاني.

اللورد جيرمي، بثقة أيديولوجية لا تتزعزع، يصر على تكرار الخطأ الكارثي في مساواة الجيش السوداني—أو بالأحرى كامل جهاز الدولة السودانية من مؤسسات مدنية وعسكرية، من التعليم إلى الصحة، ومن الزراعة إلى الخدمات الاجتماعية—بميليشيا فاشية مثل قوات الدعم السريع. ولا تستطيع أي ادلة ميدانية، ولا هروب المدنيين ولجؤهم إلى مناطق سيطرة الجيش، ولا الفارق الهائل في حجم ونوع الفظائع اليومية التي ترتكبها الدعم السريع، ولا تقارير المنظمات الدولية المتكررة، بقادرين على هز هذا الايمان العقائدي. إصرار اللورد جيرمي، ومن يقف خلفه وإلى جانبه، يكشف عن موقف سياسي يفتقد العدالة والموضوعية؛ بل هو محض انحياز صارخ لما يبدو موقفًا أقل خطورة في مشهد دولي معقّد وفاسد.

لذا نسأل بصدق، يا لورد جيرمي—عضو البرلمان البريطاني النبيل الذي تثقل صدره خفة المنقذ الأبيض التي لا تحتمل، وهو يتحدث عن دعم المدنيين السودانيين ودور بريطانيا كـ«حاملة القلم» في الأمم المتحدة: ماذا فعلت أنت، في موقعك الحالي، لتسائل حكومتك عمّا فعلته بذلك القلم؟ وماذا فعلت حكومتك لحماية السودانيين الذين تمسك بقلمهم، بينما تستهدف المسيرات الإماراتية بنيتهم التحتية ومستشفياتهم ومدارسهم وتراثهم الذي يزيد عمره على سبعة آلاف عام—بغير هوادة مسيرة منذ أكثر من شهرين؟ أم أن الحديث عن «البقرة الإماراتية المقدّسة» يقع خارج نطاق «دعم المدنيين»؟

أو ربما تفكّر بريطانيا، وهي تنو بعبء حملها لذلك القلم، في استخدامه لكتابة ملاحظة مهذبة إلى أبو ظبي، تسألها فيها: لماذا تحتجزون نشطاء وقادة سياسيين سودانيين—يعرف اللورد جيرمي بعضهم وابتسم لهم سابقًا—لشهور دون توجيه تهم أو محاكمة، لمجرّد جرأتهم على التحذير من مخاطر تمزيق وطنهم؟ أم أن هؤلاء المدنيين لا يندرجون تحت معايير اللورد جيرمي الصارمة لتعريف المدنيين؟ أو ربما قضيّتهم لا تتناسب مع الوصف الوظيفي لدى جلوبال بارتنرز جوفرنانس في مهمة دعم المدنيين السودانيين؟

هذه أسئلة جدّية، ليست من عالم «مزرعة الحيوان». لعلها تنبه لورد جيرمي قبل أن يتحدث عن دمى الخارج، ان ينظر إلى الخيوط المتشابكة حول معاصم ويستمنستر.

Comments

Popular posts from this blog

السودان يقاضي الإمارات أمام محكمة العدل الدولية: لماذا يجب على العالم الاهتمام بهذه القضية

في شأن العصيان وسبل مقاومة الطغيان