شبح ميونيخ: لماذا يجب رفض الاتفاق السياسي الذي يتم حاليا بين الحرية والتغيير والانقلابيين، وما هو البديل
شبح ميونيخ: لماذا يجب رفض الاتفاق السياسي الذي
يتم حاليا بين الحرية والتغيير والانقلابيين، وما هو البديل
د. أمجد فريد الطيب
(جئتكم بالسلام في عصرنا)، كانت هذه هي العبارة التي قالها رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين بعد توقيعه على اتفاقية ميونيخ مع ادولف هتلر في سبتمبر ١٩٣٨. هدفت تلك الاتفاقية بشكل اساسي الي استرضاء هتلر عبر تسوية تتضمن القبول بضمه لمنطقة السودييت التابعة لتشيكوسلوفاكيا للحفاظ على ما بدى انه استقرار في القارة الاوروبية حينها. ولكن اتفاقية عننا، وبدوننا (About us, without us) كما اسماها التشيك، انتهت بعد ستة اشهر فقط من توقيعها باحتلال هتلر لكافة اراضي تشيكوسلوفاكيا ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر ١٩٣٩وملايين القتلى في مجازر الابادة الجماعية ومحارق الغاز والمعارك الحربية على امتداد العالم. ما يحدث الان في السودان يعيد شبح ميونيخ الي الاذهان.
الاجابة على السؤال الوارد في العنوان تتطلب العودة الي الاساسيات. فاولا العملية السياسية الحالية - والتي ظلت مستمرة في الخفاء لفترة حتى انتجت هذا الاتفاق الاطاري، لم يقوم اساسها على البحث عن حل واقعي للازمة الوطنية، بل قامت بالاساس على صفقة تفاهم تمت عبر سماسرة الدعم السريع الموجودين في قوى الحرية والتغيير، بين قائد الدعم السريع والمجموعة المسيطرة على زمام الامور في الحرية والتغيير كما اسماها القيادي في حركة حق محمد سليمان عبدالرحيم في مقاله المنشور في جريدة الجريدة عدد اليوم ( ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٢). تفاهمات الدعم السريع مع المجموعة المسيطرة جاءت نتيجة تفاوضهم السري المستمر الذي بدأ منذ نوفمبر ٢٠٢١، وحينها رفضت الحرية والتغيير اتفاق برهان حمدوك بينما كانت تفاوض في الدعم السريع سرا، وتحاول استقطاب المجتمع الدولي الي تلك المفاوضات. هذه التفاهمات مع الدعم السريع والتي تتضمن محاولة اعادة تسويقه، وضمان قدر من الاستقلالية لهذه القوات خلال الفترة الانتقالية بالاضافة الي التغاضي عن قضايا مثل النفوذ الاقتصادي ومحاولة تسويقه خارجيا للمجتمع الدولي كاحد عوامل الحل والاستقرار في السودان، والقبول بعودة مندوبينه من قوى النظام القديم الي التحالف السياسي الجديد والذي تم تسميته بالكتلة المدنية (واعني هنا فصيل الاتحادي الاصل الذي يسيطر عليه ابراهيم الميرغني ذو العلاقة الوثيقة بطه عثمان الحسين، الراعي التاريخي لقوات الدعم السريع، والذي سيكون بطبيعة الحال اكثر فعالية للدعم السريع والامارات من خلفه) بالاضافة الي دغمسة موضوع العدالة الانتقالية واختصارها في حصانات قادة الانقلاب، وذلك في مقابل الدعم السياسي غير المشروط من قبل قائد الدعم السريع لمواقف الحرية والتغيير. ووقف شاهدا على ذلك تصريح حميدتي بدعمه وقبوله بمسودة دستور نقابة المحامين قبل الاطلاع عليها على حد تصريحه باعتبارها قادمة من دوائر الحرية والتغيير. الاساس الذي قامت عليه هذه العملية وهذا الاتفاق يجعل من المستحيل بالاساس انتهاءها بحل جيد. احد العوامل التي قادت الي انقلاب البرهان-حميدتي في ٢٥ اكتوبر العام الماضي هو تعثر عملية الاصلاح الامني والعسكري في السودان واستمرار المؤسسة العسكرية على حالها السابق. واحد اكبر التشوهات في هذه المؤسسة هو تعدد القوات العسكرية ووجود جيش موازي كامل ممثل في قوات الدعم السريع. لجأ اتفاق الحرية والتغيير الي التلاعب اللغوي والحديث عن جداول متفق عليها للدمج، دون ذكر اين هي هذه الجداول او الكيفية التي سيتم بها التوصل لها والاتفاق عليها… اختصر الاتفاق كافة الحديث عن الدعم السريع في بندين يوكدان وجودها واستقلاليتها وتبعيتها المنفصلة الي رأس الدولة… فيما فصل في البنود المتعلقة بالجيش والشرطة وذكر فيهما بوضوح منعهم من ممارسة الاعمال التجارية والاستثمار، وهو ما صمت عنه ايضا في حالة الدعم السريع!
الحديث ايضا عن الاتفاق يضمن مدنية الحكومة بشكل كامل غير صحيح على الاطلاق. بل بالعكس. فتعريف جهاز الحكومة هو انه الجهاز الاداري للدولة الذي يحتكر ممارسة العنف الشرعي. الاتفاق يتحدث عن رئيس وزراء لا يملك اي صلاحية على القائد العام للجيش (والدعم السريع الذي صنفها ايضا ضمن الاجهزة النظامية كجهة منفصلة). وحتى مجلس الامن والدفاع الوارد في الوثيقة الدستورية والذي يترأسه رئيس الوزراء لا يضم بالضرورة قائد عام الجيش او قائد عام الدعم السريع، بل يمكن ان يضم ممثلين لهما، وهو ما يجعلهم بشكل مباشر اجهزة / قوات مستقلة عن الجهاز التنفيذي. والاجدى هنا كان اعادة الوضع الطبيعي لاشراف وزير الدفاع على القوات العسكرية الوطنية وتعديل قانون القوات المسلحة الموروث من المؤتمر الوطني والذي نزع عن منصب وزير الدفاع كل المهام الاشرافية الحقيقية على الجيش. التبرير بان الجيش لا يريد تدخل من الحكومة الانتقالية المدنية في شئونه لأنها غير منتخبة، هو تبرير قاصر ويعكس عن عدم اقتناع العسكر بشرعية هذه الحكومة وعزمه في الانقلاب عليها عاجلا ام اجلا عندما لا يعجب مسار الامور قيادته. لا يوجد جيش في العالم، الا في الانظمة العسكرية لا يخضع لحكومته. هذا الاتفاق بشكله الحالي يكرس في الحقيقة لسلطة العسكر على جهاز الدولة.
اجتهدت مجموعة الحرية والتغيير بشدة في تصوير هذا
الاتفاق وتفاهماتها مع حميدتي ولاحقا مع حميدتي والبرهان للمجتمع الدولي على انها
سفينة نوح، حتى اصبح المجتمع الدولي لا يرى فعلا سياسيا غير ما تعكسه لهم المجموعة
المسيطرة. حيث لم يصبح الحراك والاحتجاج الجماهيريين جزءا من عوامل
تحليله للوضع السياسي، بل ان اجتماع بين ياسر عرمان ومحمد الحسن الميرغني او
مكالمة بين طه عثمان الحسين مع اي من اعضاء المجلس المركزي على سبيل المثال ربما
يكونان اكثر اهمية في اطار ما تعكسه لهم المجموعة المسيطرة حول سفينة نوحها للعمل
السياسي. وسيخطي المجتمع الدولي وفي مقدمته الالية الثلاثية اذا
حاول هندسة هذا الاتفاق عكسيا لاخراجه عبر عملية سياسية صورية، لأنه ببساطة يحمل
عوامل فنائه في تفاصيله، وسيؤسس لمزيد من عدم الاستقرار في السودان. واذا كان المجتمع الدولي لا يزال يرغب او لديه الارادة
لتيسير عملية سياسية تفضي الي حل سياسي ينهي انقلاب ٢٥ اكتوبر، فان هذه العملية
يجب ان تكون
١- علنية … وهذا لا يعني ان تكون المداولات معلنة بل ان تكون
العملية نفسها واجندتها في العلن في المقام الاول، بدلا عن ان تجري في الظلام.
٢- مهيكلة وذات اجندة واضحة
متعلقة بالمشكلة التي تحاول حلها وهي انقلاب ٢٥ اكتوبر. وليست
فوضوية تضع كل المواضيع على الطاولة في نفس الوقت وتحاول ان تنتهي بصفقات تبادل
سياسية.
٣- متدرجة وتمضي مما هو اكثر الحاحا واقل تعقيدا الي ما يليه، وبشكل يسمح باشراك كافة اصحاب المصلحة الحقيقيين في نقاش ما يليهم ويعنيهم من قضايا وليس افتراض امكانية تمثيلهم وحصرها في مجموعة لا تستطيع حتى تمثيل التحالف الذي تدعي تمثيله بشكل حقيقي كامل (بالاشارة الي مقال محمد سليمان عبدالرحيم القيادي بحركة حق مرة أخرى).
الحلول السياسية لا يمكن التوصل اليها باسترضاء
الغاصبين، ولا يمكن استدامتها عبر الرشى السياسية، والتي ستتصاعد المطالبات بها في
ظل سيادة نهج ميونيخ. كلفة الفشل تتزايد بشكل
تراكمي وبمتوالية هندسية متصاعدة بعد كل محاولة فاشلة للتوصل الي حل، وكلفة الحلول
السياسية السيئة لأي ازمة -مهما اجتهد المستفيدون
منها في التسويق لها- هي انها تعرقل التوصل
للحلول جيدة وتجبر الناس على التعايش مع عواقب تكرار الاخطاء. ولا يمكن التوصل الي حل لمشكلة بالتعايش معها، ما حدث في
٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ هو انقلاب عسكري، تم فيه الاستيلاء السلطة بشكل غير شرعي، ودون
تحديد هذه المعضلة كاساس للازمة بوضوح، تصبح اي محاولة للحل هي مجرد محاولة لتقنين
هذا الانقلاب ليس اكثر.
Comments
Post a Comment