انتهازية سردية الفزاعة: بين وقف الحرب ومحاولات استغلالها سياسيا



انتهازية سردية الفزاعة: بين وقف الحرب ومحاولات استغلالها سياسيا

أمجد فريد الطيب 


تواصل بقايا قوى الحرية والتغيير بتلاوينها المتقلبة، مع بقية عناصر تحالف "الاتفاق الإطاري"، بإبراهيم ميرغنيه (عضو قيادة تأسيس الان) ومؤتمره الشعبي، ومحمد لطيفه، وباباغنوجه وما اكل السبع، تبنيَ وترويجَ سردية المفكرين الجهابذة الذين يُصوِّرون الحرب الدائرة في السودان الان على أنها "هرمجدونهم" الأسطورية ضد الإسلاميين. ويظهر حميدتي ومليشياته فيها كعامل ثانوي في مواجهة ما يسمونه "جيش الإسلاميين" الذي يستنصرون عليه العالم، بنسبته الي ايران وحماس وداعش والقاعدة وجيش الحسين على عتبات الكوفة اذا لزم الأمر. 


هذه السردية ذات حدين: فهي من ناحية تتيح لهم تبرير تواطئهم السلطوي مع الدعم السريع سعيًا وراء كراسي الحكم (وهو تواطؤ بدأ منذ زمن التضليل لتمرير الاتفاق الإطاري وما فيه من المعلن والمستتر)، والدفاع عن الإمارات وهي تدعم تقتيل وتشريد السودانيين وتصوير عدوانها على سيادة السودان وشعبه على أنه كفاح مشروع لدولة "شقيقة، على حد قول قائلهم" ضد شبح الإسلام السياسي، بما يحمله من رعب تراكمي في المخيلة الغربية، التي لا تحتاج لكثير تحفيز لتقديم الدعم المادي والسياسي لهذه الأوهام طالما ترفع شعار معاداة الإسلاميين، تمامًا كما تستخدم إسرائيل فزاعة السلاح النووي الإيراني. حدها الاول كذريعة للهيمنة! 


ومن ناحية أخرى، تمكنهم هذه السردية من ابتزاز قطاعات واسعة من النخب السودانية، تشمل سياسيين متقاعدين (أو "قاعدين" بتعبير أدق)، ورجال أعمال، وصحفيين مدفوعي الاجر، ومجتمع مدني معزول عن مجتمعه وبعض موظفي السفارات والمنظمات الدولية وباحثين من منازلهم في الشأن السوداني ولكنهم لا يتأخرون عن العمل ك Snitches عبر الاختلاق والمخيلات الخصبة. وكلهم من الذين قصرت كتبهم عن مواجهة "الكيزان" زمن سلطتهم، بل تماهوا معهم ما شاءت لهم مصالحهم في بعض فترات حكمهم، وينظرون الي هذه السردية الآن كفرصة لغسل صفحاتهم بنضالات وهمية لا تتطلب منهم سوى ترديد غثاء القطيع، خاصة وأن النصر في ظنهم حتمي ما دام مربوطا بناصية الإمارات وجحافل "الجنجويد"، الذين الابقاء على سلاحهم ضروري لمواجهة سلاح "الإخوان المسلمين" كما قال مفكرهم. كل ذلك دون أدنى اعتبار لبداهة أن وضع السلاح اما السلاح لن ينتج عنه سوى الحرب، بكل ما تحمله من كوارث ذاق السودانيون مرارتها، وهو ما يتناقض تناقضًا صارخًا مع شعار "لا للحرب" الذي يرفعونه زورًا، قميص عثمان لا أكثر.  اما بعد ذلك فالعايز مفوضية فساد، يشيل مفوضية الفساد، ومن يريد وزارة طاقة، ياخد وزارة طاقة، أما من يتطلع إلى رئاسة مجلس الوزراء... فلينتظر فالصراع عليها مؤجل، والخطاب حولها كُثر وانها "الْمُنْظَرِينَ". وهو حدها الثاني كذريعة للابتزاز والرشا الانتهازية! 


يلتقي في تبني هذه السردية كل من تحالف حمدوك وتحالف حميدتي ("صمودهم" على تأسيسهم)، ويزعم كلاهما أنهما يعبران عن خيارات الشعب السوداني، غافلين عن التناقضات الفادحة في سرديتهم. فموقف السودانيين من هذه الحرب لا يرتبط بتعقيدات المظالم التاريخية لنشأة الدولة السودانية، بل هو نتاج مباشر على واقع الفظائع الذي يحاولون طمسه، والتي حدثت من الجنينة وحتى الخرطوم ومن نيالا وحتى مدني ومن العمارات وحتى معسكر زمزم. 


ما يطرحونه يتجاهل الوقائع وكأن السياسة عندهم هي عن شأن يحدث في المريخ وليس في السودان وواقع يعايشه السودانيون ويشاهدونه كل يوم. هذا واقع صنعته مليشيا الدعم السريع، وعززته بسطوة سلاحها ونفوذ رعاتها في الامارات ودعمهم السياسي لها. ناهيك عن ان حميدتي ليس بأي حال ممثلًا لمظالم الهامش والاطراف السودانية بل هو احد ادوات تهميشها وقمعها وافقارها ونهبها، ولا هو "جون قرنق جديد" كما حاول نصر الدين عبد الباري وياسر عرمان تصويره في باريس 2024، وهي المهمة التي تولاها عنهم الآن صبية الحركة الشعبية. اما ادعاءهم معاداة الإسلاميين في السودان فهو ما ينكشف زيفه حين نرى امتلاء صفوفهم بهم، وتعاونهم المستمر مع الدعم السريع الذي لا يزال يمسك بمفاصله (اصلب العناصر) من بقايا الجبهة الاسلامية، ذلك غير عمالتهم المستمرة للإمارات والتي ظلت تدعم نظام البشير حتى أسابيع قبل سقوطه (وراجع اخبار منحتها لنظام البشير بمئات الملايين من الدولارات في مارس 2019، قبل الإطاحة به في أبريل من العام نفسه).  


هذا خلط معرفي يتجاهل ما يحدث على ارض السودان: 

- يحتل الدعم السريع بيوت الناس ويطردهم منها، فيخرج قائلهم ليبرر هذا الاحتلال ويتساءل كيف يخرجون منها والي اين؟! 

- يغتصب الدعم السريع مئات والاف السودانيات فيخرجون علينا ببيان ادانة لا يستنكف تزوير الوقائع لاختلاق حوادث ينسبها للجيش! 

- يمارس الدعم السريع الابادة الجماعية والقتل العنصري ضد المساليت بوضوح شهد عليه العالم ووثقته عناصر المليشيا بصيحات الهستريا العنصرية فيخرجون ليلوموا الضحايا ويتهمونهم بابتدار العنف! 

- يقصف الدعم السريع معسكرات النازحين فتسارع منظمات مجتمعهم "المدني" بوصمها بانها تحولت الي معسكرات حربية !!! 

- تقصف الامارات بمسيراتها محطات الكهرباء وسدود المياه والمرافق المدنية فيخرج علينا حمدوك ليحدثنا عن حملة اعلامية تُدار ضد الامارات التي تُكرم السودانيين!


هذه الحرب ليست امتدادًا لاختلال تاريخي موجود ومطلوب علاجه في بنية الدولة السودانية، بل هي محاولة من مليشيا فاشية – وهي قوات الدعم السريع – للاستيلاء على السلطة بالقوة، مدعومة بنخبة سياسية مهترئة تقدم تبريرات الحرب عبر عملها المأجور في مكاتب قيادة الدعم السريع لادارة تحالفاتهم السياسية. واستمرار هذه الحرب هو نتاج العدوان الإماراتي الذي يسعى لفرض نموذج استعماري جديد في السودان عبر مرتزقتها العسكريين (كحميدتي ومليشيته) أو عملائها المدنيين (كحمدوك وصحبه وتحالفه). صحيح أن الإسلاميين يحاولون استغلال الكارثة سياسيًا لاعادة تقديم انفسهم وهو ما ساعدهم عليه مناوئهم بغباء منقطع النظير بانحيازاتهم الخاطئة، لكن الأمر نفسه ينطبق على ما تبقى من نخبة الحرية والتغيير في ("تقدم" و"صمود" و"تأسيس") بانحيازاتهم ذات البوصلة الواحدة. ولا ينبغي تحويل هذه الحرب إلى ساحة لتصفية الحسابات الأيديولوجية بينهم تحت ستار ايقافها… فهذا استثمار في الدم لا يقل بشاعة عن مطلقي الرصاص. هذه الحرب ينبغي ان تتوقف على مبادئ العدالة والاقتصاص من المجرم واحقاق الحقوق الاصيلة وليس شعارات التمهيد لقسمة السلطة وتوزيع الغنائم إذ لم يكتب الله على شعب السودان أن يختار بين أسوأين.  


المعيار الحقيقي في محاكمة موقف كل هذه الأطراف هو موقعها من مصالح الناس، وامنهم وكرامتهم، وللأسف اختارت النخب المتبقية في تحالف الحرية والتغيير أن تبرر قتل السودانيين، ونهب ممتلكاتهم ، واغتصاب نساءهم، واعتداء دولة اجنبية على سيادة وطنهم. فلا يلوموا إلا أنفسهم على سخط الشعب، الذي استهانوا الخوض في دمه وعرضه وحرماته. 

Comments

Popular posts from this blog

السودان يقاضي الإمارات أمام محكمة العدل الدولية: لماذا يجب على العالم الاهتمام بهذه القضية

حكاية اللورد جيرمي بورفس وغضبه الانتقائي تجاه الدمى

في شأن العصيان وسبل مقاومة الطغيان