السودان: العنف والانتخابات، هل يمكن تحسين شروط المأساة
؟!
ما
بعد الاتفاق الإطاري: العدالة الانتقالية والمسئولية الجنائية والمسئولية السياسية
على جرائم العنف السياسي
أمجد فريد الطيب
لا
يوجد ما هو نهائي في متغيرات السياسة. والتعامل مع الواقع يفرض علينا دائما البحث عن
السبل لتحسينه، خصوصا إذا ما كانت الاثار التي تترتب على ما يحدث فيه الان تمتد لعواقب
طويلة الامد.
فرضت قوى الحرية والتغيير تفاهماتها التي توصلت اليها
مع قادة الانقلاب كأمر واقع، في اتفاقها الإطاري مع العسكر المبرم في ٥ ديسمبر، والذي
تسعى حاليا لتوسيع دائرة المشاركة الشكلية فيه، بمن حضر حتى وان كان جزءا عضويا من
نظام البشير في مراحله الاخيرة، وذلك سعيا وراء انتاج تحالف سياسي سلطوي واسع يتبنى
بقية التفاهمات التي تم التوصل اليها بالفعل في شكل اتفاق نهائي يتم اخراجه عبر وساطة
شكلية من المجتمع الدولي. الشاهد هنا ان السعي لتصميم عملية سياسية شكلانية عبر الالية
الثلاثية وبقية شركاء المجتمع الدولي، لمجرد إخراج هذه التفاهمات المسبقة رسميا، هو
امر ينبغي الوقوف ضده بحزم وصرامة، والسعي من اجل هزيمة انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ عبر الوسائل المختلفة والتي منها الانخراط في عملية
سياسية حقيقية-مهيكلة، وعلنية، ومتدرجة، وذات اجندة محددة تخاطب انقلاب ٢٥ اكتوبر دون
اغراقها في تفاصيل اخرى، ومن غير مخرجات مسبقة- بما يتيح تحسين مخرجاتها بشكل يجعلها
اقرب لمطالب الثورة والشارع في تحقيق شعار (الحرية والسلام والعدالة)، لاقصى حد ممكن،
وليست مجرد تنفيذ لبنود صفقة سياسية سيئة، قطعتها المجموعة المسيطرة على الحرية والتغيير
مع حميدتي اولا ثم حميدتي والبرهان لاحقا ويتم الترويج لها حاليا كسفينة نوح السياسة
السودانية. على الوسطاء الدوليين و الميسرين الأمميين اذا ارادوا لعب دورهم في دعم
الشعب السوداني واداء تفويضهم كما ينبغي ان يعوا انهم ليسوا اسامة انور عكاشة، وان
تصميم اي عملية سياسية جادة وحقيقية لا ينبغي ان يكون خاضعا لرغبات طرف واحد في المعادلة
السياسية، خصوصا وانه قطع صفقاته السياسية الثنائية بمعزل عن الجماهير التي يدعي تمثيلها.
الجدير
بالذكر ان تسمية اتفاق ٥ ديسمبر بانه اطاري هي تسمية خاطئة بالإساس. فالاتفاق لم يحتوي
على اي اطار او خطة لعملية سياسية مرتقبة، بل احتوى على بنود نهائية، واتفاقات والتزامات
مسبقة على قضايا متعلقة بشكل اساسي بهيكلة الدولة ومسار الفترة الانتقالية، وضمان لاستقلالية
العسكر - الذين وقع كل من شقيهم على حدة، ممثلين في قائد الانقلاب ونائبه في مشهد هزلي
يكشف عن مدى بؤس الانقلاب الذي لم يتفق اصحابه على اي شيء غير التخلص من اطار الحكم
المدني السائد حينها- فيما ادعى ترحيل القضايا الاساسية التي قام بسببها الانقلاب الي
مرحلة لاحقة، وهي قضايا تم حسم الاتفاق عليها فيما اسمته قوى الحرية والتغيير تفاهمات،
ليصبح الغرض من المرحلة القادمة هو البحث عن اخراج صوري مناسب لهذه الاتفاقات -او التفاهمات.
دعوات قوى الحرية والتغيير الحالية للتوقيع (البصم) على الاتفاق الاطاري، بدون نقاش
لبنوده او امكانية حقيقية لتغييرها عبر نقاش سياسي مفتوح هي ليست أكثر من محاولات لتقسيم
الدم بين القبائل، وسعي حثيث لتوسيع دائرة المشاركة في تحمل عواقب الصفقة السياسية
على اوسع قدر ممكن من المشاركين الذين لا يملكون سوى البصم على شروطها المسبقة. ولكن
العمل على تحسين شروط هذه الصفقة او التفاهمات ينبغي ان يكون بخلق بيئة مواتية وضمانات
سياسية كافية لمنع حدوث اي انقلابات او تأثير عسكري على السلطة السياسية في البلاد.
احد
التفاهمات مسبقة الصنع، هي فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية، والتي تم اختزالها بشكل
مخل في شكل الحصانة الجنائية لقادة الانقلاب، والمخطط ان يتم الترويج لها عبر ورشة
عمل تشرف عليها الحرية والتغيير، او تحالفها الجديد، بشكل يجعل تركيز العدالة الانتقالية
هو حول الغاصبين في حين ان مركزها ينبغي ان يكون الضحايا. تطرح الحرية والتغيير في
تصورها لتنفيذ الاتفاق ان تقوم باختيار "مجموعة سودانية مدنية ذات سمعة محترمة"
لتتولى مع اسر الشهداء وبدعم تقني دولي عقد مؤتمر لإخراج بند الحصانة الذي تم
"التفاهم" عليه مع العسكر خلال فترة لا تتجاوز الاسبوعين. فيما طرحت الالية
الثلاثية تصورها لإخراج التفاهمات في كافة القضايا بما فيها العدالة الانتقالية عبر
مجموعات عمل تجتمع لمدة نصف يوم كل يومين -وذلك بالطبع لمنع التداخل بين عمل المجموعات
بما يتيح الفرصة لسوبرمانات السياسة السودانية لممارسة وصايتهم في المشاركة في كل مجموعات
العمل- لتضع خارطة طريق مبدئية لمخاطبة هذه القضايا وتلخيص الالتزامات -بحسب نص الخطة-
ليتم ادراجها في الاتفاق النهائي. ويحدث كل ذلك خلال اربعة اسابيع. (وهو ما يجعل فترة
عمل المجموعات هي نفسها فترة الاسبوعين التي طرحتها الحرية والتغيير). والالية هنا
أكثر صدقا في سعيها لتلخيص الالتزامات وترجمتها العملية، حيث انها تعلم تماما ان الاتفاق
النهائي موجود مسبقا وما ينقص هو تفاصيل تنفيذه العملية.
بعيدا عن الاختزال المخل لهذا التصور، الذي يتعامل
مع قضية العدالة الانتقالية على انها محض بند في اتفاق سياسي، وليس الية لمصالحة وطنية
حقيقية وشاملة تتركز حول الضحايا في المقام الاول وتضمن حقوقهم وتضمن عدم تكرار جرائم
الماضي، فالسؤال هنا عما هي الجرائم التي يخاطبها اتفاق العدالة الانتقالية المطروح.
هل هي جرائم ما بعد ١١ ابريل ٢٠١٩ وحتى الان فحسب، ام هي قضايا العنف السياسي المركزي
المتعلق بشهداء التظاهرات السلمية ، ام هي -كما يجب ان تكون- متعلقة بجميع جرائم
العنف الذي تم في الحراك السياسي في السودان، والتي تتضمن جرائم جميع الفاعلين ومأاسي
الحروب الاهلية وقضايا النازحين واللاجئين والمهجرين، وقضايا التشريد والتعذيب والاضطهاد
وغيرها مما مارسه جهاز الدولة السودانية والفاعلين السياسيين الاخرين ضد المواطنين
السودانيين في اوقات مختلفة من التاريخ السياسي السوداني. واذا كان الغرض هو الاخير،
فكيف يمكن تصور ان هذا الامر يمكن معالجته خلال اسبوعين، وبدون ماركة قاعدية حقيقية
للمتضررين ودراسة حقيقية لما هو موجود من دراسات وكتابات وتجارب حول الموضوع. بطبيعة
الحال فان تنفيذ هذا الامر في اطار التوصل لحل سياسي سريع هو من قبيل المستحيل، ولكن
ما هو ضروري هو تحديد الهدف، الذي يراد التوصل اليه بوضوح، وليس مجرد طبخه كسلق بيض
لتنفيذ اتفاق حصانة مسبقة.
العدالة
الانتقالية قد تمنح الغاصبين مهربا من تنفيذ المحاسبة الجنائية -في غير الجرائم الجسيمة- ضدهم، ولكن لا يجب ان تعني الافلات الكامل من العقاب.
وهذا الثمن الباهظ لا ينبغي ان يغفل جانب المسئولية السياسية. وغني عن القول، المؤسسة
العسكرية والامنية السودانية، (جيشها ودعمها السريع وجهاز امنها وشرطتها) وحاملي السلاح
والرتب العسكرية الرسمية، والذاتية (خلا كما يسميها السودانيون) في السودان عموما هم
أكثر من مارس العنف السياسي بطبيعة الحال، لدلك يصبح من المنطقي وضع نص واضح يمنع اصحاب
الرتب العسكرية في مرتبة لواء فما فوق من المشاركة في الانتخابات لفترة خمسة الي سبعة
سنوات على الاقل بعد تقاعدهم، خصوصا في ظل الانتخابات التي تم الاتفاق على عقدها
خلال عامين من بدء تنفيذ التفاهمات المنعقدة. وهذا الامر ليس غريبا ولا مبتدعا في سبيل
بناء اي نظام ديموقراطي. بل هو امر موجود في كثير من الديموقراطيات الحديثة. والغرض
منه ليس المحاسبة السياسية -كما هو في حالتنا- وحسب، بل ايضا الحفاظ على الحياد السياسي
المطلوب لاجهزة حفظ النظام وانفاذ القانون ومنعهم من التأثير والانحياز السياسي بما
يؤثر على مبدأ القيادة المدنية للدولة. ان حتى الموظفين المدنيين العاملين في وزارات
الدفاع في بعض الدول يتم منعهم من اظهار اي ميول سياسي حزبي خلال اداءهم لواجباتهم
- انظر the US Hatch Act على سبيل المثال- فيما تضع قواعد اخرى تحد من امكانية
العسكريين حتى في التعليق السياسي على وسائط التواصل
الاجتماعي. وذلك لا يتعلق بالديموقراطيات الغربية، بل الجزائر القريبة، ناقشت واجازت
في ٢٠١٩ قانون يمنع العسكريين من الممارسة السياسية والترشح للانتخابات لمدة خمسة سنوات
بعد احالتهم للحياة المدنية. وكل ذلك للحفاظ على حياد جهاز العنف الشرعي الذي يُعرف
احتكاره مفهوم الحكومة الحديثة ذات نفسها، من الاستخدام السياسي.
ان الحديث عن اختلاف الوضع في السودان، وخصوصيته وما الي ذلك من
المبررات التي يسوقها بعض السياسيين المتلهفين لتقاسم النفوذ على جهاز الدولة مرة اخرى،
والتي تجعلهم يتصارعون الان لاعادة مسلسل السيطرة على جهاز الدولة من خارجه، بدلا من
مواجهة واجبهم الطبيعي كسياسيين في ادارته، ومواجهة مسئولياتها، هي ما تجعلهم يغضون
النظر عن ان حقيقة سماحهم لانفسهم بهذا النفوذ الفوقاني سيسمح للأخرين وبالطبع للمؤسسة
العسكرية بالمثل. وان مثل هذه القواعد هي ضرورية بل ولازمة لبناء اي ديموقراطية حقيقية
مستقرة. وان محاولة الحد من احلامنا وتطلعاتنا في الديمقراطية في السودان بالحديث عن
الاسرار "الخطيرة" والتي ينبغي ان يتم عدم تداولها ونقاشها إلا في اطار ضيق
للنخبة السياسية وتفادي النقاش الجماهيري الواسع لها لحمايتها (والمقصود هنا
بالطبع حماية نفوذ هذه النخبة في تحديدها)، هو مجرد تقنين للوصاية السياسية وانتهاك
صارخ لحق الجماهير التي ثارت ببسالة لاقتلاع البشير ووضع اسس مشاركتها المتساوية في
صياغة المستقبل السياسي لبلادها.
حفظ الله السودان وشعب السودان
Comments
Post a Comment