مساحات التنظيم السياسي؛ قصر الثورة المشيد وبئره المعطلة
مساحات التنظيم السياسي؛ قصر الثورة المشيد وبئره المعطلة
(مقال منشور بجريدة الجريدة بتاريخ ١٨ مايو ٢٠٢١)
امجد فريد الطيب
اهم واكبر ما اتاحته الثورة حتى الان هو مساحات التنظيم المدني والسياسي. حراك منظمة اسر الشهداء وقدرته على صناعة واستقطاب الرأي العام باتجاه خطابها دليل على ذلك. في ذات الحين، فان اقل ما تم استخدامه من مكتسبات الثورة حتى الان، هي هذه المساحات. حيث لا تزال القوى السياسية والمدنية والاجتماعية الوطنية تعتمد على ادوات وجبهات وتحالفات ما قبل الثورة، ولانجاز مهام واهداف بعضها ابعد من مرامي الفترة الانتقالية؛ سواء ان كانت هذه الاهداف مجرد السلطة وهي الهدف الطبيعي لأي تنظيم سياسي او ذات طبيعة برامجية وايديولوجية غير قابلة للتحقيق في ظل تنوع اتجاهات الاجسام المكونة لنسيج الفترة الانتقالية. وهو ما ادى الي انقسام قوى الثورة بين معسكرين تم افتراض نموذج ثنائي قسري يصنف كل فاعل سياسي في نطاقهما: اولهما يفترض نهاية التاريخ السياسي السوداني على النموذج الحالي بما يجعله يسعى للسيطرة عليه متبنيا خطاب ليس في الامكان افضل مما يحدث الان، والثاني يفترض نهاية كلية لمسار الثورة على نفس النموذج ويسعى للانقلاب الكلي عليه متبنيا خطاب (تسقط تالت). موقفان برغم تناقضهما الظاهري هما وجهان لعملة واحدة وتحليل واحد. وهذا كله ليس سوى عجز في التصورات وكسل سياسي فادح في افضل الفروض.
هناك مساحات متاحة للتنظيم والعمل السياسي غير مستغلة، ولكن إذا تم استغلالها، فهي قادرة على احداث فرق حقيقي في مسار التغييرات والاصلاحات والاهداف المطلبية التي يحتاجها السودان بعد ثلاثة عقود من الشمولية البائدة. وهي الاصلاحات التي تتطلب فهم مسار الانتقال كعملية غير خطية وتحتاج الي التراكم النوعي الذي يحتاج الي زمن لحدوثه، وليس كلحظة نهائية مستقرة كما يفترض المعسكر الاول او لحظة قطعية فاصلة كما يفترض المعسكر الثاني. لكن كل هذه الاصلاحات لن تكون ذات طبيعة دائمة التأثير ما لم تبدأ بمدخلين اساسيين:
الاول: هو اصلاح المنظومة العسكرية والامنية، بجعلها جزء من جهاز الدولة المدني، وليس فوق هيكل الدولة، وتحت الرقابة المباشرة للاجهزة التنفيذية. وهذا يتطلب اولا توحيدها ووجود تسلسل قيادي واضح ومضبوط لها وما يتطلبه ذلك من عمليات تدريب واعادة هيكلة وتأهيل جذري يغير عقيدة عملها السائدة، ليس في السودان فحسب ولكن في دول ما بعد الاستعمار عموما، والتي تربط بين مفهومي القوة والشرعية بشكل ميكانيكي. وهو ما سيشكل ضمانات عدم الردة الي دائرة الانقلابات الشريرة وكما يتقاطع مع ملفات السلام والعدالة الجنائية والانتقالية بل وحتى الاصلاح الاقتصادي.
والثاني: عملية صناعة الديمقراطية في معناها الاكثر شمولا، والذي يتطلب بسط السلطات الي اكبر قدر من السودانيين؛ عبر صناعة واستكمال هياكل فاعلة وحقيقية للحكم المحلي، وضمان فصل السلطات الثلاثة واستكمال هياكلها ونظام الرقابة والتوازن (Check and Balance) فيما بينها. عملية صناعة الديمقراطية في السودان لا يجب ان يكون الهدف منها مجرد الوصول لنظام انتخابات تمثيلي فحسب، ولكن ينبغي ان يتعدى ذلك لاعادة صياغة العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، حيث يطلب خدمات الرعاية الاجتماعية وحماية الحقوق الفردية والجماعية وغيرها من واجبات الحكومة من اجهزتها مقابل تفويضه ومحاسبته لها عبر النظام الديمقراطي ورقابته عليها عبر سلطات الدولة الاخرى القضائية والتشريعية.
ما سبق في كلا النقطتين هما عمليات تحتاج الي زمن، ولكن قبل الزمن تحتاجان وجود وحراك سياسي منظم باتجاه تحقيقهما. وهو ما عجزت عنه قوى النادي السياسي حتى الان في تشرذمها بين ضفاف اهداف نهائية، مهملة الاساس المطلوب لتحقيقها.
بطبيعة حال اي حراك، فإن هناك قوى ثورة مضادة، سواء ان كانت منتمية للنظام المخلوع او تتوهم قدرتها على صناعة ديكتاتورية جديدة في السودان. وهذه القوى اكثر تنظيما حتى الان مما يجعلها اكثر قدرة على خدمة اهدافها. وهذه القوى وعلى عداءها للاهداف الكلية للثورة فهي متوزعة بوعي او بدون وعي بين المعسكرات التي انقسمت لها قوى الثورة، وموجودة ايضا وبتأثير شديد وسط الاجهزة الامنية والعسكرية التي لا تزال موبؤة بعبء بقايا النظام السابق، والتي تقاوم مدخلي التغيير (الاصلاح الامني والتحول الديمقراطي) في السودان لأنه يحد من نفوذها على جهاز الدولة ووجودها خارج نطاق التغيير في السودان. ويشجعها على هذا ضعف المكون المدني وعجز القوى المدنية عن استغلال المساحات المتاحة بشكل منظم لدفعها واجبارها على الانخراط في مسيرة التغيير بشكل جذري وحقيقي. هذه المساحات التي لا تبدأ بالمواجهات التشريعية والقانونية والدستورية فحسب (وذلك في ظل غياب المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية) ولا تنتهي بالضغط السياسي المباشر، والذي ظل اتجاهه في الفترة الماضية يدعم من سيطرتها بشكل او باخر مثلما حدث في تفاصيل تكوين مجلس الشركاء. وعلى ذلك، فقد شكل العمل القانوني وسيلة عمل حدت من النفوذ المتزايد للمكون العسكري، الذي يتمدد في فراغ العجز المدني عن المواجهة. مثلما حدث في قضية رئيس مجلس السيادة ضد النقيب احمد ادريس والتي قضت بانعدام الصفة القانونية لمقدم الدعوة وحددت بالتالي سلطات رئيس مجلس السيادة في انه لا ينوب في تفويضه عن المجلس على العموم كجهة اعتبارية. واللافت للنظر ان هذه المواجهة القانونية ابتدرها المكون العسكري، كالية ارهاب وردع للانتقادات ضده، بدلا من تستغلها الجبهات المدنية كالية للحد من تمدده في فراغ السلطة. ذلك غير ان تفعيل السلطة التي انتزعتها الثورة بالمشاركة الفاعلة فيها والدفع باتجاه تحقيق اهداف الثورة هو نفسه الية عمل صحيحة لدفع قاطرة تحقيق اهداف التغيير وهو حق لكل قوى الثورة وما التنازل عنه الا تولي عن ساحة قتال يمكن تحقيق انتصارات واهداف مشتركة شتى عبرها، بدلا عن بذل الجهد في صراع تناحري حول قضايا لاحقة.
والشاهد ان العمل السياسي المنظم، محدد الاهداف والوسائل في التدرج لما ينبغي انجازه، هو افضل السبل باتجاه وصول الفترة الانتقالية لما تصبو اليه. وهنا لابد من الاشارة الي ان حراك التنظيم والتواصل الجماهيري واعادة الترتيب الذي ابتدرته عدد من لجان المقاومة والمنظومات النقابية، هو امر يستحق الاشادة والاجلال من قوى حديثة صدقت مع نفسها في تمثيل وصفها بينما فشلت اغلب التنظيمات السياسية ومنظومات المجتمع المدني الاخرى في هذا الواجب حتى الان.
Amjed
Comments
Post a Comment