عندما يخرج الموقف السياسي من جيب القميص: حزب ميادة الليبرالي قدر الظروف
عندما يخرج الموقف السياسي من جيب القميص
حزب ميادة الليبرالي قدر الظروف
للمعلم محمد ابراهيم نقد، جملة خالدة في كتاب الحكمة السياسية: أن
الموقف السياسي لا يخرج من جيب القميص. ومفاد حكمته هذه ان اي سياسي ينبغي ان يحسب
جيداً أثر
اي موقف سياسي يتخذه على جماهيره وعضويته وعلى المساحة العامة والحراك السياسي
الذي يتحرك فيه قبل الجهر به، ومدى اتساق ذلك الموقف مع برنامجه السياسي ومواقفه
الفكرية المبدئية. الا انه في عصر الانحطاط السياسي الحالي ابتلى الله السودان
بأحزاب وتنظيمات وسياسيين تمثلوا في طبيعة حالهم جملة "نقد" بإخراج
الموقف السياسي من جيب القميص، فلا يترتب عليه لا اثار فكرية ولا تنظيمية ولا
سياسية ولا اي شيء على الإطلاق غير صوت عالي من ضجيج الطبول الفارغة.
اخر تجليات ذلك، هو ما تم إعلانه قبل ايام قليلة من توقيع الدكتورة
ميادة سوار الدهب رئيسة الحزب الليبرالي السوداني - جناح ميادة (وذلك بعد انقسام
الحزب الليبرالي قبل سنوات قليلة) على وثيقة مخرجات الحوار الوطني. وكانت ميادة قد
مضت بحزبها منذ انشطاره الثنائي، في مسار متعرج بدأ بالتحالف مع الطيب مصطفى و(منبر
سلامه العادل) وغازي صلاح الدين و(حركة اصلاحه وتجديده لمشروع الحركة الإسلامية)
في تحالف المنشطرين الذي عُرف حينها بقوى المستقبل. ولا أدرى كنه المستقبل
الليبرالي الذي يبغى حزب ميادة صناعته مع بعض أكبر ركائز المشروع الحضاري في
تجلياته الاثنية والفكرية في السودان. ولكن الذي يبدو أن الأهداف المشتركة كانت
عاملا أقوى للوحدة والتحالف من الاختلافات الفكرية، الأمر الذي يعري ضعف هذا
البناء الفكري وركاكته في كلا الجانبين. فما كان انشطار غازي ومن قبله الطيب مصطفى
عن المؤتمر الوطني الا طلبا لقطعة أكبر من كيكة السلطة والنفوذ-كما وصفها جنرال عصر
الانحطاط- والذي تبدو ميادة لاهثة في تعرجات مسار حزبها لتذوقها.
لم يلبث تحالف المستقبل ان انفض سامره بعد سنتين او ثلاثة ليخرج عنه
حزب ميادة في أكتوبر ٢٠١٦، معلنا في بيان مدوي (رفضه لأي حوار مع النظام الحاكم لا
يحقق الشمولية ووقف الحرب واتاحة الحريات، نافيا انضمامه إلى الحوار الوطني). لم
تصبر ميادة عدة أشهر بعد ذلك لتعود وتوقع على وثيقة مخرجات نفس الحوار الوطني الذي
رفضت المشاركة فيه بمبررات (بلا... بلا... بلا) وبالطبع فلا غريب على الحزب الذي
يطمح الي تنزيل ليبرالية نهاية التاريخ على واقع المجتمع السوداني ... الا
الشيطان. المدهش في الامر ان حزب ميادة لا يزال يحاول تكبير كومه عبر محاولة ضم اي
قوى اخرى معه ليدخل لمائدة السلطة تحت شعار (القوى الجديدة). نفس الذي يجتهد في
فعله مبارك الفاضل وجماعته في محاولة لتكبير ثمن الانضمام، فيا لتلك الجدة والجدية
التي تتوسل بنفس وسائل النادي السياسي القديم للانضمام الي مائدة النادي بكرسي
جديد.
شعار القوى الجديدة الذي يقوم حزب ميادة بابتذاله وتمريغه على الأرض
هو شعار صحيح في مضمونه، وهو مرتبط بظلامات تاريخية انتجت خلل شنيع في بناء الدولة
السودانية وطبقتها السياسية واحتكرت الممارسة السياسية لطبقات اقتصادية وفئات
اجتماعية واثنية معينة استخدمت أشنع أدوات التمييز والاقصاء لاحتكار السلطة
السياسية والاجتماعية في السودان وحصرها على مدى معين. الا ان هذه القوى الجديدة
لن يتم جمعها وتنظيمها عبر دعومات مادية المانية لتنظيم المؤتمرات وجمع شتات قوى
(الشباب والنساء والهامش) والانضمام الي الحكومة الجديدة التي سيشكلها المؤتمر
الوطني بعد الحوار الوطني لحجز مقعد تأثير للقوى الجديدة التي لم يعرف كنهها ولم
يجتمع شملها بعد في طاولة الحكم. هذا المنهج يشكل أسوأ مظاهر الفساد السياسي على
الاطلاق.
تقلبات
المواقف السياسية المتطايرة يميناً ويسارا، تتسق تماما مع الاسم الشعاراتي الذي
يتبناه حزب ميادة في الساحة السياسية السودانية، حين يتبنى ليبرالية مجردة، لا
يشرح لنا كيف يريد مخاطبة وحل مشاكل السودان عبرها. هذا الكساح الفكري والسياسي هو
الذي يتيح لحزب ميادة هذه الليونة المواقفية. فالموقف السياسي لا يكلفه اي شيء ولا
يترتب عليه اي خسائر او مكاسب عامة. وهو الذي يجعل من هذه الممارسة احدى مظاهر عصر
الانحطاط السياسي الذي نعيشه والذي يحول السياسة وكافة مناحي العمل العام في
السودان من سعي ملموس بوسائل واقعية لحل مشاكل الناس وخدمتهم الي مجرد حوار نخبوي
منفصل عن الواقع، يتبادل تجريداتً نظرية لا علاقة لها بما يحدث يوميا على الارض.
يحول السياسة من خدمة عامة والسياسيين من موظفين عامين لدى الشعب، الي حوار صفوة
معزولة في أبراج عاجية تتبادل انخاب وكراسي السلطة فيما بينها. هذا التسفيه
المتواصل للعمل السياسي باستسهاله بهذا الشكل هو الذي حول السياسة الي مسرح عبث
كوميدي كبير في السودان... عبث دموي قاتل تسيل جراءه دماء السودانيين في أطراف
البلاد المختلفة ... دفعا لضريبة البناء المختل للدولة السودانية، بينما تواصل النخبة
غيبوبتها الواعية.
على
صعيد أخر، يجتهد اللاهثون في اتجاه قاعة الصداقة في لعب دور المحلل الشرعي لآثام
وجرائم الإسلاميين. وذلك عبر القبول بهم او بمخرجات حوارهم الخرطومي مع الذات
كأساس لبناء جديد شكلاً وقديم مضموناً. شهادة الزور هذه لا يقوم به حزب ميادة
وبقية قوافل المنضمين الي مخرجات الحوار لوحدهم، بل تقوم به أيضا قوى أخرى متناثرة
في المجتمع المدني والسياسي السوداني. ولكن يفوت على كل هؤلاء اللاهثين ما لم يفت
على ليدي ماكبث أن (كل عطور بلاد العرب لن تطيب أثر الدم على تلك اليد الصغيرة)،
فالدم الذي يصبغ ايدي الاسلامويين الحاكمين اليوم، ورفاقهم المطرودين من دار
المؤتمر الوطني لن تمحوه مؤتمرات القوى الجديدة التي يدعم قيامها المؤتمر الوطني ويمولها
حلفاء النظام الجدد في المجتمع الدولي للبصم على مخرجات الحوار.
ان
أي محاولة لإنتاج وخلق واقع سياسي جديد في السودان، لا يخاطب قضايا العدالة
والمحاسبة والمسئولية السياسية بشكل جاد وحقيقي، ويسعى الي الانتصار لضحايا القمع
والعنف السياسيين، وضحايا جرائم الحروب والابادات والاغتصابات الجماعية لن يكون ذو
أثر باقي او دائم في السودان. وميادة سوار الدهب – وهي اخصائية علم النفس- لا شك
تدرك ذلك. محاولة القفز على هذه المظالم التاريخية والجرائم التي لا تزال مستمرة
دون مخاطبتها والسعي لحلها لن يغطيها أي منصب برلماني او وزاري موعود... فمشاكل
السودان لم ولن تحلها الرشي السياسية من المؤتمر الوطني او من المانيا او من أي مكان ... ومهما
ارتفع الثمن فالحق لا يباع.
تمام
ReplyDelete