حميدتي وقوات الدعم السريع: الموت حرفتي!

حميدتي وقوات الدعم السريع: الموت حرفتي!

أمجد فريد الطيب


"انا ندم الغد و البارحة 

رايتي: عظمتان.. و جُمجُمَه..

و شعاري: الصباح"!

أمل دنقل


في يوم السبت ٤ نوفمبر ٢٠٢٣، قامت مليشيا قوات الدعم السريع بالهجوم على منطقة اردمتا شرقي مدينة الجنينة في ولاية غرب دارفور. حدث هذا بعد هجوم المليشيا واستيلاءها على قاعدة الفرقة ١٥ مشاة للجيش السوداني والتي انسحبت منها دونما قتال يذكر بعد نجاح وساطة قادها زعماء أهليون قضت بانسحاب قوات الجيش من المنطقة. قامت المليشيا حينها بارتكاب جريمة اغتيال سياسي جديدة، حيث قام افرادها بتصفية احد اقدم زعماء الادارة الاهلية والزعماء القبليين في السودان، "الفرشة" محمد ارباب محمد نيل؛ فرشة فروشية* منطقة مستري، والذي يبلغ من العمر ٨٥ عاما وكان قد تقلد هذا الموقع منذ العام ١٩٥٨، ليصبح احد اقدم منسوبي الادارة الاهلية في السودان على الاطلاق.


قامت المليشيا بقتل المرحوم محمد ارباب وابنه وثمانية من احفاده. وكانت عناصر مليشيا قوات الدعم السريع قد قامت في يونيو الماضي بقتل ابنه محمدين محمد ارباب وافراد اخرين من اسرته.ولم تكتف المليشيا بهذه الجريمة في اردمتا. اجتاحت عناصرها الوحدة الادارية الواقعة شمال شرق مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور وعاثت فيها فسادا. اقتحمت بيوت المدنيين وعمدت الي تقتيلهم ونهب ممتلكاتهم وطردهم واهانتهم بالسياط والعصي بشكل عنصري، وثقته مقاطع فيديو بثها منسوبو المليشيا في وسائط التواصل الاجتماعي، يتحدثون فيها عن علو كعبهم واصلهم ك (عرب اقحاح) على افراد القبائل غير العربية في دارفور. انتشرت صور جثث سكان اردمتا في الشوارع، بينما احتفلت المليشيا بنصرها في مقر فرقة الجيش وهم يبشرون بالديموقراطية والدولة المدنية المحمولة على اسنة البنادق.


لم تكن هذه اول جرائم مليشيا الدعم السريع في غرب دارفور. فقد قامت في مطلع هذه الحرب بارتكاب مجازر مماثلة في مدينة الجنينة عاصمة الولاية. حيث قامت في ١٥ يونيو الماضي باجتياح المدينة، واغتيال والي الولاية المرحوم خميس ابكر ثم التمثيل بجثته بشكل بشع ثم قامت بتصفية والده بعد ذلك. اطلقت المليشيا ادوات عنفها ضد مجتمع المساليت في حملة استهداف كبيرة شملت عددا من رموز قبيلة المساليت في دارفور، وراح ضحيتها أيضا الأمير طارق عبدالرحمن بحر الدين، شقيق سلطان دار مساليت، وأفراد آخرون من أسرته، ومنسق العمل الإنساني في الولاية الصادق محمد أحمد وهو ايضا محامي وحقوقي معروف، وكما قامت المليشيا باغتيال الأستاذ طارق مالك، رئيس المكتب الفرعي للجنة تسيير نقابة المحامين في غرب دارفور. وذلك بالإضافة إلى الهجوم على منازل عدد من الموظفين الحكوميين والأعضاء البارزين في مجتمع المساليت وقتلهم داخل منازلهم. استعانت المليشيا في هجماتها هذه على السودانيين بمقاتلين استجلبتهم من كافة انحاء غرب افريقيا. واوردت الاخبار  مقتل  محمد أبوبكر موسى  رئيس تنسيقية المعارضة التشادية في هجوم قوات الدعم السريع على سلاح المدرعات في الخرطوم يوم الاثنين ٦ نوفمبر ٢٠٢٣. وكان الممثل الخاص للامين العام للامم المتحدة السابق في السودان، فولكر بيرتس قد اورد في وقت مبكر من هذه الحرب في تقريره المقدم لمجلس الامن وجود عناصر اجنبية تشارك في القتال في صفوف مليشيا قوات الدعم السريع.


لم يفتح الله على تحالف قوى الحرية والتغيير ولا اجتماعات الجباه المدنية المؤتمرة في اديس بكلمة عن المجازر التي تم ارتكابها في اردمتا. اصدرت قوى الحرية والتغيير بياناتها المعتادة عن المضايقات التي تواجه افرادها او حالات منعهم من السفر ودخول البلاد، وهي بطبيعة الحال انتهاكات كبيرة وخطيرة لحقوقهم بينما انصرف عضو مجلس السيادة ورئيس الجبهة الثورية التي تضم عدد مقدر من حركات دارفور الهادي ادريس الي الرد على وتفنيد قرار قائد الجيش عبدالفتاح البرهان باقالته من مجلس السيادة، ولاذ الاخرون بالصمت والتجاهل وسط انخراط كوادر قوى الحرية والتغيير الاعلامية في الوسائط الاجتماعية في الهجوم على كل من يشير الي هذه الجرائم او ينتقد المليشيا على ارتكابها في محاولة لصرف التركيز والنظر عنها وتسليط الضوء على اي امر اخر. لا يمكن ان يتم تسخير ادوات العمل السياسي لمحض الحديث عن الحقوق الذاتية لاعضاء منظوماتها وتجاهل مجازر تطهير عرقي تم ارتكابها بمثل هذا الحجم. حالة الذهول هذه لم تعري فقط التحالف المضمر بين المليشيا وبعض مراكز اتخاذ القرار في قوى الحرية والتغيير، فهذا الامر ظل مكشوفا منذ وقت طويل، منذ ان اكترى صاحب المليشيا بعض افراد المجلس المركزي تحت دعاوي مناطقية وجهوية لدعم خطه السياسي والترويج لمليشيته في اروقة التحالف. وهو الامر الذي وصل الي درجة  ان التحالف المتشدق بالديمقراطية ، قام برفض اعتماد انتخابات داخلية لتجمع المهنيين، بغرض الحفاظ على الوجود السياسي لافراد معينين لم يتم انتخابهم في داخله، وعمل بعد ذلك من اجل دفع تجمع المهنيين السودانيين للانشقاق واعتماد تمثيل الفصيل الذي خسر الانتخابات في داخل هياكل الحرية والتغيير. لم يخسر تحالف قوى الحرية والتغيير قدرته على تمثيل القاعدة الجماهيرية من امور بسيطة، ولكنه كان منهج الديموقراطية التي تناسبنا الذي اتبعه. وهو الذي لا يزال يتبعه الان مناصروا المليشيا وهم يتغنون بان المليشيا ستأتيهم بالديموقراطية والحكم المدني في البلاد. كشف هذا الذهول ايضا عن الفهم المغلوط للسياسة الذي يعتنقه ساسة اديس، فالامر لا يعدو عندهم سوى اللقاءات الدبلوماسية والتصريحات العنترية واتفاقيات الغرف المغلقة المعزولة عن حياة الناس وما يصيبهم فيها. يتخيل الواحد منهم ان امر اقالته او تعيينه او منصبه هو اهم واخطر عشرات المرات من مجزرة جماعية وانتهاكات تصيب شعبهم الذي يتنافسون لحكمه. هي ممارسة ذاتية بامتياز للسياسة، لا يتعدى فيه احدهم حدود نفسه، دونما من اعتبار لشئون الناس او البلد الذي يرغبون في ادارته. 


اما المليشيا، فلم تخرج مجزرة وجرائم اردمتا عن النسق المألوف لما ظلت تمارسه منذ اندلاع حرب ١٥ ابريل وقبلها. فقوات الدعم السريع قامت بالاساس على جعل الحرب حرفة لكسب العيش. تأسست ونمى نفوذها وتزايد عبر قدرة مالكها محمد حمدان دقلو (حميدتي) على مد نظام الرئيس البشير المخلوع باكبر قدر من المقاتلين بسرعة، كما ذكر حميدتي بنفسه ذات مرة خلال عهد البشير الذي جذل بها حتى اسماها قوات حمايتي وليس حميدتي. اعتمد حميدتي في ذلك على اغراء المقاتلين بالربح السهل والسريع… حيث ينضم الدعامة الي قواته مقابل اجر ثابت ام الغنيمة فهي لغانمها، وهو عامل اخر يشجع عناصره على التفلت والسعي وراء المعارك. لم يحتج الي كثير تدريب او تأهيل في مجال الجندية لادراج عناصر مقاتلة في صفوفه، ولم يهتم نظام الاسلاميين المخلوع بذلك، فكل ما كان يريده هو عناصر مقاتلة يستعين بها في بسط هيمنته ونفوذه من دون حمولات ايدولوجية كثيرة. وهو ما وجدته فيها ايضا بقايا قوى الحرية والتغيير بعد المتغيرات التي عصفت بمسار الثورة. فهذه المليشيا، مجرد اداة عسكرية ذات كتاب خاوي من المضمون الا طموح صاحبها للسلطة والنفوذ. فخطت عليها شعارات الحكم المدني وانهاء التمايزات التنموية والديموقراطية. وهي شعارات لا يضير المليشيا تبنيها وترديدها ما دامت لا تمس نفوذ صاحب المليشيا واستثماراته وتجنيده. بل وحتى في مجال مكافحة الفساد، اجتهدت قوى الحرية والتغيير في الحديث عن ما نهبه الاسلاميون وما دمروه في هياكل الاقتصاد الوطني، وضرورة السعي لاسترداد ما نهبوه وعن استثمارات الجيش وضررها البالغ على الاقتصاد، وكل هذا صحيح، ولكن ابتلعت العصفورة لسانهم لتمنعه من تناول تنامي استثمارات المليشيا والرشى السياسية التي تداولتها في عهد البشير وبعده لبناء نفوذها السياسي والاقتصادي. بل اندفع بعضهم كعضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي سليمان، ليتحدث عن ضرورة الحفاظ على هذه المليشيا لأنه تم بناءها بواسطة اموال دافع الضرائب السوداني، فيما يبرر بعضهم الاخر عدم الحديث عن سرطان الدعم السريع الاقتصادي بان هذه الاموال هي ممتلكات شخصية لحميدتي واسرته من ال دقلو … وكأنما ورثوها عن (دقلو باشا) وانها ليست نتيجة تمكين الاسلاميين وافسادهم واستبدادهم لحماية نظامهم! ولكن ماذا عن ممتلكات السودانيين الشخصية وبيوتهم ومقتنياتهم التي نهبتها المليشيا؟! أكلت العصفورة لسانهم مرة اخرى! 


استثمرت المليشيا ايضا في افساد نسق وسبل كسب العيش الطبيعية في السودان عموما وفي دارفور على وجه الخصوص. افسدت صراعات الرعاة والمزارعين التي زادت حدتها منذ الثمانيات نسق التعايش الاجتماعي في دارفور. وانفجر هذا الامر بشكل اثني في حرب دارفور في ٢٠٠٣ بين الرعاة الذين ينتمي اغلبهم لعناصر عربية في دارفور والمزارعين الذين ينحدرون من عناصر افريقية. استثمرت المليشيا في هذا التنازع منذ تكويناتها الجنجويدية الاولى، حيث جعلت الانضمام اليها وحمل السلاح هو احد اكثر سبل كسب العيش ربحا للشباب في الاقليم. ثم جاءت حمى التنقيب عن الذهب والذي انخرطت فيه المليشيا بشكل كبير لتدعيم ذلك. اصبحت مليشيا قوات الدعم السريع هي حارسة بوابة الذهب في السودان. فبين انشطتها المباشرة في التنقيب، واتاوات الحماية والتسويق التي تفرضها على المعدنيين التقليدين والشراكات التي ابرمتها مع الشركات الكبيرة العاملة في مجال التنقيب عن الذهب، اصبح المليشيا هي وكالة التشغيل الاكبر في السودان في ظل انهيار نظام سبل كسب العيش التقليدية من زراعة ورعي. واشارت تقارير بحثية حديثة الي ان المطامع المتعلقة بالذهب تلعب دورا كبيرا في الحرب الحالية في السودان الذي يقدر انتاجه السنوي بمئة طن من الذهب ولكن ما يذهب الي خزينة الدولة من حصيلته لا يتجاوز ٣٠ طن.


في ظلال الهلاك الذي يخيم على السودان، جعلت المليشيا من صناعة الموت حرفتها… والدمار صناعتها المفضلة! 

_____________


*الفروشية هي احد مستويات الادارة الاهلية في سلطنة دار المساليت في غرب السودان، ويعتبر الفرشة بمثابة وكيل لسلطان دار مساليت في المنطقة التي يقيم فيها . 

Comments

Popular posts from this blog

متاهة التحول الديمقراطي في السودان

شبح ميونيخ: لماذا يجب رفض الاتفاق السياسي الذي يتم حاليا بين الحرية والتغيير والانقلابيين، وما هو البديل