وجه يهوذا الأوروبي: صنيعة الثلاثين قطعة من الفضة. الاتحاد الأوروبي واللاجئين مرة أخرى
وجه يهوذا الأوروبي: صنيعة الثلاثين قطعة من
الفضة. الاتحاد الأوروبي واللاجئين مرة أخرى
أمجد فريد الطيب
وفقا لسرد الكتاب المقدس، ثلاثون قطعة من الفضة كانت الثمن الذي قبضه
يهوذا مقابل خيانة السيد المسيح وتسليمه إلى كهنة المعبد. وبحسب نفس الرواية، تم
استخدام نفس هذه الثلاثين من الفضة لاحقاً لشراء مقبرة للغرباء، بعد ان غلب الندم على
يهوذا فاعادهم إلى الكهنة قبل ان يقوم بشنق نفسه. قرر كهنة المعبد أن هذه النقود
هي ثمن لدم، وعليه لا يمكن أن استخدامها لأغراض مقدسة أو نبيلة، لذلك استخدموها
لشراء مقبرة للغرباء؛ “Haceldama” او ميدان الدم، كما لا
يزال يسمى حتى اليوم. في يومنا الحاضر يقوم الاتحاد الأوروبي بدفع ثلاثين قطعة
فضية أخرى لشراء هاسلداما جديدة للمهاجرين السود واللاجئين القادمين من أفريقيا.
قبل الفي سنة مضت، كانت ثلاثون من الفضة هي ثمن شراء عبد بشري، في زمن
تجارة الرقيق البائد. وهي تعادل تقريبا 600 دولار بحسابات الأموال اليوم، وهو ما يعادل
متوسط سعر شراء الرقيق في المزادات البشرية الحديثة. موخراً، كشفت شبكة سي ان ان
في تقرير تحقيقي [1] عن عودة تجارة الرقيق ومزادات بيع البشر على نطاق واسع إلى عالمنا
اليوم. وتضمن التحقيق الذي قامت باجرائه الإعلامية نعمة الباقر
لقطات فيديو لاحد مزادات بيع البشر التي تجرى في ليبيا، ويسمع فيها أصوات المزايدين
والمشترين وهم يضعون أسعارهم لشراء العبيد بقيمة لا تتجاوز 400 دولار للبعض.
اللاجئون الأفارقة كانو هم السلعة في هذه المزادات. الشباب الهاربون من جحيم العيش
في إثيوبيا وإريتريا والسودان والصومال وتشاد ونيجيريا والنيجر إلى نهاية القائمة
الطويلة من دول المشاريع الفاشلة لحكومات ما بعد الاستعمار في أفريقيا، التي تمر بأسوأ
الظروف الإنسانية والاستبدادية، هم ضحايا هذه الجريمة. وهم الذين يجري بيعهم،
مرارا وتكرارا، عقابا لهم على "خطيئتهم" في محاولة الهرب من الطغيان
والمعاناة. تتم معاقبتهم بشكل رئيسي على محاولتهم التمتع بحقهم الإنساني الأساسي
في اللجوء الانساني.
لم تتردد الصحيفة البريطانية ذات التوجه الليبرالي الكلاسيكي (The Independent) في احتفائها بما اسمته رد الفعل القوي من (الغرب) لهذه المأساة في
ليبيا، عن توصيف هولاء الشباب بانهم (يسيرون نائمين) نحو ليبيا [2]، بينما استقيظ بقية العالم لايقاف
هذه المأساة. ويبدو حسب معايير الانديبندنت، ان محاولة هولاء اللاجئيين الحصول على
احد حقوق الإنسان المنصوص عليها في قواعد القانون الدولي والاتفاقات العالمية، ليس
سوى محض اضطراب سلوكي.
ما لم تحاول فهمه بيثان ماكرنان
(كاتبة مقال الانديبندنت) [3] في مقاله المحتفي برد فعل الغرب على تقرير (سي إن إن)
هو أن رحلة هولاء المهاجرين –كما يتم وصفهم الان- الي خارج بلادهم هي ليست خياراً
لهم. هم ليسوا سياحا أو مسافرين مغامرين ينامون طريقهم إلى أسواق الرقيق في ليبيا
متجاهلين الأخطار. هم يعرفون بالفعل أنهم يخاطرون بحياتهم هرباً من أوضاع من شأنها
أن تكلفهم حياتهم بالتأكيد. وهم يعرضون انفسهم للمخاطر المحتملة لتفادي بؤس ومخاطر
أكيدة. لأنهم ببساطة ليسوا مهاجرين كما يحاول الاتحاد الأوروبي اقناع الجميع الان.
هم لاجئون وطالبي اللجوء، وهو حق لجميع البشر المعرضون للخطر او الاضطهاد، ولون أسود
للجلد لا يلغي هذا الحق على الاطلاق. هذا التغيير في خطاب ولغة الإشارة إلى
اللاجئين الأفارقة بوصفهم بأنهم مهاجرين خطير جدا. فهو يخلق تدريجيا واقعاً جديداً
لا تصبح فيه حقوق اللاجئين حقوقاً لهم، لأنهم ليسوا لاجئين، بل هم مهاجرين حسب
التوصيف الجديد [4].
وعلاوة على ذلك، فإن المخاطر التي يواجهها اللاجئون تتم صناعتها بواسطة
أخرين غيرهم ولا يمثلونهم، ولا تحدث بسبب مشيهم خلال النوم. الغرب الذي احتفت به
السيدة ماكرنان هو ضمن هولاء الاخرين. حيث لا يستطيع الغرب التغاضي عن دوره في
عودة جريمة الرق الي عصرنا الحالي، ولا سيما أوروبا بالتحديد. إذا اخترنا أن ننسى تركة
مئات السنين من الاستعمار التي أوقفت واعترضت التطور الطبيعي والتنمية في الجنوب
العالمي والنهب البشع لثروات الدول الأفريقية خلال عهد الاستعمار لصالح تراكم رأس
المال في أوروبا (هي عوامل ساهمت لدرجات مختلفة في خلق الأوضاع الراهنة في
أفريقيا)، فكيف يمكننا أن نغض الطرف عن عواقب السياسات الأوروبية الحالية المناهضة
للهجرة التي تطلق العنان لميليشيات المرتزقة لمطاردة اللاجئين على الحدود
الأفريقية لمنعهم من الوصول إلى أوروبا. عملية الخرطوم وغيرها من الاتفاقات الثنائية
بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والبلدان الأفريقية التي تعقد لتحقيق هدف
واحد هو وقف اللاجئين بعيدا عن الأراضي الأوروبية.
في السودان، يدعم الاتحاد الأوروبي علناً جهود مكافحة الهجرة غير
النظامية (كما اصطلح على التسمية) [6] و يتم دفع الملايين من اليوروهات من أموال
دافعي الضرائب الأوروبيين لهذا الغرض. تلك الجهود التي يعرف الاتحاد الأوروبي جيدا
أنه يتم تنفيذها من قبل ميليشيا الجنجويد، التي أعيد تشكيلها لتعرف باسم قوات
الدعم السريع [7]. يستمر الاتحاد األأوروبي في الانكار القاطع لجميع الأدلة التي تشير لتوجه هذا الدعم لقوات
الدعم السريع في حين يعترف بدعمه لجهود السودان في السيطرة على الهجرة. غير ان
النظام السوداني اعلن عدة مرات أنه أوكل مهام مراقبة الحدود والواجبات المتعلقة
بمراقبة الهجرة ووقفتها لميليشيا قوات الدعم السريع التابعة له. كما أن أعداد
هؤلاء اللاجئين الذين تم القبض عليهم يتم إعلانها بطريقة احتفالية من قبل قيادة
قوات الدعم السريع [8] من أجل إثبات فعاليتها في محاولة لإقناع العالم بالتغاضي عن
جرائمها السابقة. وتكرر هذه الإعلانات كل حين وآخر مع تزايد أعداد اللاجئين المحتجزين
[9]. قوات الدعم السريع وصفتها تقارير الأمم المتحدة [10] بانها أداة للحرب
بالوكالة للحكومة السودانية وقيمت دورها كعامل لزيادة العنف والعقاب الجماعي
والتشريد القسري في دارفور، كما استخدمتها الحكومة السودانية أيضا لقتل عشرات المتظاهرين
المدنيين خلال انتفاضة سبتمبر 2013 [11]. بالإضافة الي كل هذه الانتهاكات، تم
توثيق واتهام قوات الدعم السريع بارتكاب جرائم ضد المهاجرين واسائة معاملتهم [12]
ولكن لا أحد يهتم لذلك. ويتم جلب المهاجرين المحتجزين إلى الخرطوم لمحاكمتهم ثم
قضاء فترة السجن قبل ترحيلهم قسرا إلى بلدانهم الأصلية [13]. وهي جريمة أخرى
وانتهاك القانون الدولي ولكن ايضاً، لا أحد يهتم. ويبدو ان فعالية قوات الدعم
السريع في احتجاز اللاجئيين ومنعهم من الوصول الي أوروبا هي التي تقنع الاتحاد الأوروبي
بغض النظر.
ما يحدث في السودان ليس المثال الوحيد الذي لم يتورع فيه الاتحاد
الأوروبي ودوله الأعضاء عن استخدام الميليشيات لوقف اللاجئين. فقد قامت إيطاليا
مؤخرا بتقديم الدعم للميليشيات الليبية [14] للمساعدة في تعقب المهاجرين ومنعهم من
المرور إلى أوروبا؛ الحد من الهجرة كما تم صك المصطلح. وتم التوصل إلى اتفاق تمويل
يشمل توفير المعدات والقوارب والرواتب مع اثنتين من أقوى الميليشيات في مدينة
صبراتة في غرب ليبيا، وهي أكبر نقطة انطلاق للمهاجرين الأفارقة في محاولتهم عبور
البحر الأبيض المتوسط. وكانت الأمم المتحدة في اخر تقرير لها عن الوضع في ليبيا قد
حددت أحدى هاتين المليشياتين كلاعب رئيسي في عمليات الاتجار بالبشر [15]. أدت هذه
الصفقة إلى انخفاض كبير في أعداد أولئك الذين يصلون إلى الحدود الأوروبية، ولكن
بأي ثمن؟ إذا تجاهلنا الأثر الكارثي لتمويل مجموعة مسلحة غير مشروعة والسماح لها
بإثراء وتمكين نفسها، فكيف يمكن للاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه أن ينكر
تأثير ذلك في عودة ظهور الرق في العصر الحديث. في كل الأحوال، فقد قامت الممثلة
السامية للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية و نائب رئيس المفوضية الأوروبية: فيديريكا موغيريني
[16] بتحية هذه التدابير الإيطالية والاثناء عليها في كلمتها أمام البرلمان
الأوروبي في سبتمبر من هذا العام[17].
وتعتبر الاتفاقيات الثنائية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مع
الدول الأفريقية (وخاصة السودان) مثيرة للجدل في أفضل الأحوال إن لم تكن غير
قانونية تماماً وتمثل دعوة مفتوحة لتقنين انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الأنظمة
الاستبدادية [18]. وخلص تحليل قانوني تم أجراءه مؤخرا لاحدى الاتفاقات الثنائية
بين إيطاليا والسودان [19] الي أن الاتفاق ينتهك بشكل واضح حقوق الإنسان المعترف
بها دوليا. ووقعت دول أخرى مثل ألمانيا [20] اتفاقيات مع السودان تشمل تدريب قوات
الأمن على مكافحة الهجرة نيابة عن أوروبا (وهي مهمة اوكلتها الحكومة السودانية
رسميا وبشكل معلن إلى قوات الدعم السريع)، وتستمر المملكة المتحدة في اجتماعاتها نصف
السنوية لما اسمته بالحوار الاستراتيجي [ 21] مع الحكومة السودانية. وتؤكد هذه
الاجتماعات مرارا وتكرارا على تعزيز التعاون لمكافحة الهجرة والتي هي مرة أخرى من
مهام مليشيا قوات الدعم السريع. وفي الآونة الأخيرة وقعت المملكة المتحدة والجيش
السوداني مذكرة تفاهم [22] يلتزم فيها الجيش البريطاني بتوفير الخدمات الإدارية واللوجستية
اللازمة لتسهيل المناورات الميدانية لقوة شرق أفريقيا (إيساف). وتمثل هذه الصفقات
التي تشمل التعاون الأمني خرقا لحظر الأمم المتحدة على الأسلحة المفروض على
السودان، والذي يحظر أيضا - وفقا لحكومة المملكة المتحدة [23] - المساعدات الفنية
وخدمات السمسرة وغيرها من الخدمات العسكرية. كما يحظر أيضا التمويل أو المساعدة
المالية للأنشطة العسكرية التي تجري في السودان. ومثل هذه المناورات العسكرية هي
نشاط عسكري واضح يتم الاعداد له في السودان.
وأشار التحليل القانوني للاتفاقات الثنائية التي تجريها الحكومات الأوروبية
مع الافريقية، الي ان الحكومات الأوروبية تحاول التحايل على القنوات الرسمية
والقانونية لصناعة الاتفاقيات الدولية والضوابط الدستورية لاجازة مثل هذه الاتفاقيات في دولها وضوابط احترام حقوق
الانسان في قوانينها المحلية، باطلاق اسم "مذكرات تفاهم" على اتفاقياتها
الثنائية مع الحكومات الافريقية. اسم مذكرات التفاهم يجعلها اقل الزامية، وتجعل
مسئولية الدول الأوروبية اقل كما يثير توقيع "مذكرات تفاهم" ضجة اقل لدى
الاعلام ولا يحتاج الي نفس الإجراءات الرسمية والبرلمانية التي قد يحتاجها الاتفاق
الدولي. ولكن اياً يكن الاسم؟ فان حقيقة جريمة انتهاك الحقوق الإنسانية تبقى كما
هي.
وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يدعي باستمرار أن مشاريع عملية
الخرطوم ذات طابع مدني وتنموي فحسب، فإن بعض المشاريع المعلنة هي ذات طابع أمني
للغاية. وعلى سبيل المثال، فإن المركز التشغيلي الإقليمي لدعم عملية الخرطوم (Regional
Operational Centre in support of the Khartoum Process) هو مشروع بقيمة 5 ملايين يورو لدعم وكالات إنفاذ القانون في
إثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان والسودان وكينيا، والصومال، وتونس، ومصر، وجيبوتي.
مع إمكانية مشاركة أوغندا وليبيا أيضا. ويهدف المشروع إلى بناء القدرات وجمع
المعلومات الاستخبارية وتبادلها بين هذه الوكالات. حسنا، لقد شهدنا أمثلة لما يسمى
بقوات إنفاذ القانون عندما يتعلق الأمر بالنهج الأوروبي الحالي لمراقبة الحدود
الأفريقية في حالات قوات الدعم السريع السودانية وميليشيات صبراتة في ليبيا.
ويهدف المشروع ال انشاء مركز للقيادة في احدى مراكز تدريب الشرطة في
الخرطوم ويتم تنفيذ المشروع من خلال قوات الشرطة التابعة للدول الأعضاء في الاتحاد
الأوروبي بالتعاون مع الإنتربول للاستفادة من "كفاءتهم وتخصصهم التقني
العالي" في تدريب وبناء قدرات القوات التابعة للدول المعنية المشاركة في عملية
الخرطوم . وبالنظر إلى سجلات جميع هذه البلدان في استخدام وكالات إنفاذ القانون في
انتهاكات حقوق الإنسان، فإن نتائج التدريبات وبناء القدرات هذه لن تكون سوى زيادة
صب الزيت على النار، ولكن محارق شعوب شرق افريقيا لا يبدو انها ذات أهمية لدى دول
الاتحاد الاوروبي.
فيما يتعلق ببناء القدرات في جوانب أخرى غير الأمنية، يكفي أن نذكر أن
أعضاء البرلمان الأوروبي خلصوا في تقرير عن الزيارة إلى السودان في ديسمبر / كانون
الأول 2016 إلى أن الإنجاز الرئيسي للجنة
الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر بعد عامين من إنشائها؛ كان مشاركة أعضائها في
التجمعات والمؤتمرات الدولية في لندن وأديس أبابا وإيطاليا والبحرين وقطر[24]. وفي
حين أنه لا يوجد مقر فعلي لعمل اللجنة ولا ميزانية عمل ولا أفراد مدربون ولا بيوت
آمنة للضحايا. لا أستطيع أن أجد مثالا أكثر وضوحا لكيفية قيام عملية الخرطوم
بتبديد أموال دافعي الضرائب في الاتحاد الأوروبي أكثر من ذلك.
حاليا في السودان، تتزايد بوتيرة متسارعة انشاءات البنية التحتية لعسكرة
الحدود. فبالإضافة إلى التغطية الإعلامية الاحتفالية لإعلانات قوات الدعم السريع
عن اعتقالات اللاجئين، يجري دعم انشاء مراكز احتجاز ضخمة جديدة للاجئين في الولاية
الشمالية. والهدف من هذه الخطط المتزايدة لعسكرة الحدود هو توسيع النطاق التشغيلي
الذي تغطيه قوات الدعم السريع في مطاردتها لللاجئين. وتعتبر الصحراء النوبية في
شمال السودان الطريق الرئيسي للاجئين المتوجهين إلى ليبيا ومصر. يذكر ان مدينة
دنقلا مدرجة الان كموقع لانشاء احد اكبر مراكز اعتقال اللاجئين فى انحاء البلاد. وتم
اقتراح دنقلا والتخطيط لانشاء المركز فيها دون وضع أي اعتبار للسياق المحلي ودون
تقصي او استطلاع لرأي المجتمع بشأن هذا المرفق الجديد. ومن المهم الإشارة إلى أن
المواطنين المحليين في شمال السودان النوبي حساسون جدا فيما يتعلق بأراضيهم
وديموغرافيا المنطقة والسكان. والمناوشات بين المواطنين والنظام الحاكم في السودان
تجري بالفعل حاليا على مستوى متصاعد حول هذه القضايا. إن بناء مركز احتجاز للاجئين
في هذه المنطقة جنبا إلى جنب مع تصاعد وجود ونشاط قوات الدعم السريع المصاحب له، بالإضافة
الي توطين اللاجئين بشكل قسري في المنطقة، لن يؤدي إلا إلى زيادة التوترات
والاحتكاكات لدرجات أكثر خطورة.
يثبت هذا المثال مرة أخرى فشل صانعي السياسات المتعلقة بالهجرة في أجهزة
الاتحاد الأوروبي لدراسة الاوضاع على أرض الواقع وقصورهم عن فهم السياق المحلي وتوجهات
الرأي العام القاعدية أثناء وضع مقترحاتهم وخططهم أو لعلهم يختارون تجاهل ذلك وعدم
الاهتمام به فحسب. إن استبعاد واقصاء وجهة نظر المجتمعات المحلية وتجاهل تعقيدات سياقها
الاجتماعي والديموغرافي يعكس جزء من السرية وعدم الشفافية التي تحيط بعملية
الخرطوم وما يصاحبها من خطط الاتحاد الأوروبي لادارة ملف الهجرة. هذه السرية وانعدام
المشاركة المجتمعية لن يؤدي إلا سوى المزيد من غرق الاتحاد الأوروبي في مستنقع التعامل
الأمني مع حكومات قمعية لمحاولة حل مشكلة تسببت فيها في المقام الأول. كذلك، فإنه
يخلق المزيد من سوء الفهم والارتباك داخل الرأي العام ويغذي مفاهيم الخوف والعداء
للآخر. وربما يهدف الاتحاد الأوروبي، من خلال هذا الغموض، الي تقليل حدة
الانتقادات الموجهة الي خططه الجارية في ملف إدارة الهجرة واللجوء، وهو ما يستبطن
علمه بالاخطاء الفادحة في هذه الخطط والإجراءات، ولكن في الحالات التي تفتقر إلى
مساحة كافية لحرية التعبير - مثل السودان وفقا لبيانات الاتحاد الأوروبي نفسه [25]
– فانه يجب على الاتحاد الأوروبي فتح اذنه وعقله والاستماع بقلب مفتوح إلى
الانتقادات والتقييمات من الفاعلين المحليين والمجتمع المدني. أن أي محاولات من
الاتحاد الأوروبي أو دوله الأعضاء لفرض أجندات مانحين ومحاولات إسكات الانتقادات المحلية
لعملية الخرطوم وبقية خطط الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالهجرة أو فرض خطوط للرقابة
على منظمات المجتمع المدني التي ترفع صوتها بالنقد، ستكون ضارة وأكثر كارثية من
أزمة سوء الإدارة الحالية، وسوف تزيد الاستقطاب والاستعداء حول قضية الهجرة
بأكملها. يجب على الاتحاد الأوروبي أن يستمع إلى الأصوات المحلية في اوروبا والأصوات
الأفريقية التي تقيم وتنتقد نهجه الحالي في معالجة قضية اللجوء واللاجئين، وأن يحاول
التوصل إلى نهج أفضل قائم على المشاركة مع المجتمعات المحلية القاعدية في معالجة
الأسباب الجذرية الحقيقية لما يتم وصفه الآن على أنه أزمة هجرة.
وفقاً لكل ما سبق، يتضح أن الاتجاه الذي يأخذه الاتحاد الأوروبي ودوله
الأعضاء حاليا في معالجة قضية اللجوء والهجرة ليس سوى عسكرة الحدود ودفعها جنوباً
باتجاه مناطق تعمل فيها الميليشيات والأنظمة التي لا تهتم او تضع اعتبارا لكبيرا
لتطبيق قواعد القانون الدولي أو احترام قيم حقوق الإنسان. بما يمكنها من ارتكاب ما
تشاء من انتهاكات –خارج أوروبا- ضد اللاجئين من اجل الوصول الي الهدف المتمثل في
الحد من الهجرة الي أوروبا التي تلتزم فيها حكوماتها باحترام حقوق الانسان (على أراضيها
فقط كما يبدو الأمر).لكن الحقيقة المجردة هي أن الاتحاد الأوروبي هو الذي ينتهك
هذه المعايير ويرتكب هذه الجرائم ولكن بالوكالة.
ويشكل التضييق المتزايد في سياسات مراقبة الحدود والتعامل الأمني مع
اللاجئين والحصار المضروب على طرق اللجوء، السبب الرئيسي لعودة تجارة الرقيق إلى
العصر الحديث بهذا الحجم. وفي الواقع، فإن معظم اللاجئين أو المهاجرين (كما يصر
الاتحاد الأوروبي الان على تسميتهم)، لا يتعرضون للاختطاف ضد إراداتهم. هم يلجأون
إلى المهربين كخيارهم الوحيد لإيجاد طريقهم للخروج من ظروف "الخوف المبرر من
الاضطهاد" [26] أو التي لا يمكن فيها توفير سلامتهم البدنية والقانونية
والمادية وكرامتهم وحقوقهم الأساسية، وهي المبررات القانونية الكافية بحسب اتفاقية
1951 لمنحهم حق اللجوء والذي يكفله لهم القانون الدولي. ولكن في غياب المسارات
الآمنة للحصول على هذا الحق، يصبح اللجوء إلى المهربين هو الخيار الوحيد.
وفي حين أن اللاجئين هم اصحاب حقوق اصيلة، فإن المهربين ليسوا مدافعين
عن حقوق، بل هم يقومون بعملية التهريب كعمل تجاري ربحي، وهو ما يمكنهم من الانتقال
ليصبحوا تجار بشر ويبيعوا هولاء اللاجئين كرقيق لمزيداً من الربح كما اثبتت التدابير الإيطالية.
إن وضع سعر وثمن من اجل وقف اللاجئين سواء ان كان ذلك من خلال حزم المساعدات إلى
الأنظمة الفاشلة التي تشكل جزءا من الأسباب الجذرية لظواهر اللجوء أو الدفع
المباشر للميليشيات هو الخطوة الأولى من عملية تسليع اللاجئين ونزع هويتهم
الإنسانية وتحويلهم الي مجرد سلع في عيون العصابات غير المشروعة. وهنا يجد الاتجار
بالبشر وتجارة الرقيق البيئة المواتية للنمو، في ظل تواجد السلع المتاحة مجانا أو
بأسعار قليلة والتي لا يهتم بحمايتها أحد. يتم تحويل المهربين أنفسهم إلى تجار بشر
من خلال الإجراءات الأمنية الصارمة المنفذة حاليا دون النظر الي مألاتها.
والحقيقة القبيحة الأخرى حول رد الفعل الغربي على أزمة تجارة الرقيق في
ليبيا، هي محاولات الاتحاد الأوروبي استخدام الزخم الإعلامي الذي أحاط بافتضاح هذه
الكارثة لإجبار طالبي اللجوء / اللاجئين على العودة القسرية إلى الأوضاع التي
كانوا يحاولون الفرار منها في المقام الأول [27] عبر رفع شعارات التدخل لانقاذهم
واعادتهم الي اوطانهم الأصلية دون العمل على حل جذور مشاكلهم أو ضمان سلامتهم هناك.
سيكون هذا هو العمل الأوروبي الأكثر عدم أخلاقية وشراً، منذ أن قررت أوروبا أنها
"اكتشفت" أفريقيا.
وعلينا ألا نخطئ هنا، فان هولاء الذين يختاون هذه الخياران الخطيرة
للفرار، ليسوا هم الذين يتم جذبهم للهجرة إلى أوروبا من أجل نمط اكثر راحة للحياة،
بل انهم الذين هم في أشد الحاجة إلى ملاذات أمنة تتوفر فيها كرامتهم وإنسانيتهم و
حقوقهم الأساسية. ان أولئك الذين تم جذبهم للهجرة من اجل الاستمتاع بنمط الحياة
الاوروبية هم الذين يمكنهم الحصول على اللجوء في أوروبا بسهولة جدا بعد الوصول إلى
هناك بالطائرة والدخول بتأشيرات رسمية توفرها لهم امتيازاتهم الاجتماعية
والاقتصادية في بلدانهم الأصلية ولا يحتاجون الي المخاطرة باخذ هذه الخيارت
الخطيرة، في حين أن الذين هم في أمس الحاجة الحقيقية الي اللجوء يتم تركهم لمحاولة
الخيار الخطير. إن فرضية عوامل الجذب والدفع في تفسير الهجرة ( Lee Migration Theory )ليست مناسبة على الاطلاق
لتفسير ما يحدث الان، ببساطة لأن ما يحدث ليس مجرد هجرة، بل هو لجوء انساني.
والأزمة الحقيقية التي يجري تجاهلها هي الزيادة الضخمة في أعداد الذين يحتاجون إلى
ملجأ خارج اوطانهم في عالمنا اليوم. هذه الزيادة ليست فقط بسبب فشل الدول
والحكومات وانتشار الاستبداد في الجنوب العالمي، ولكن أيضا بسبب تزايد حدة عدم
المساواة العالمية، التي لها جذورها التاريخية الخاصة، والسياق الذي يحتاج إلى
معالجة. وفي ظل غياب رؤية شاملة لقضية الهجرة، تأخذ كل الجذور والأسباب في
الحسبان، فإن حزم المساعدات والتنمية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي لمعالجة
الهجرة، لن تكون سوى ثلاثين عملة فضية جديدة لشراء هاسلداما للاجئين الغرباء.
_____
المراجع:
[1] People for sale; Where
lives are auctioned for $400. CNN exclusive report By Nima Elbagir, Raja Razek,
Alex Platt and Bryony Jones, http://edition.cnn.com/2017/11/14/africa/libya-migrant-auctions/index.html
[2] McKernan, B. (2017).
The rest of the world has seen the horrors of Libya's slave markets. But
African migrants are still sleepwalking into danger. [online] The Independent.
Available at: http://www.independent.co.uk/news/world/middle-east/african-migrants-libya-slave-markets-aim-europe-refugees-human-trafficking-smugglers-a8087591.html
[Accessed 8 Dec. 2017].
[3] Twitter.com. (2017).
Bethan McKernan (@mck_beth) | Twitter. [online] Available at:
https://twitter.com/mck_beth [Accessed 8 Dec. 2017].
[4] Amjed Farid (2017). The
Judas Face of Europe: Why Is The EU-Khartoum Process So Wrong on So Many
Levels. [online] Sudanseen.blogspot.com. Available at:
http://sudanseen.blogspot.com/2017/11/the-judas-face-of-europe-why-is-eu.html
[Accessed 8 Dec. 2017].
[5] Khartoumprocess.net.
(2017). Home - Khartoum Process. [online] Available at:
https://www.khartoumprocess.net/ [Accessed 8 Dec. 2017].
[6] Sudantribune.com.
(2017). Sudan receives 100 million euros from EU to stem irregular migrants -
Sudan Tribune: Plural news and views on Sudan. [online] Available at:
http://www.sudantribune.com/spip.php?article58044 [Accessed 8 Dec. 2017].
[7] Sudantribune.com.
(2017). Sudan says it is combating illegal migration "on behalf of
Europe" - Sudan Tribune: Plural news and views on Sudan. [online]
Available at: http://www.sudantribune.com/spip.php?article60087 [Accessed 8
Dec. 2017].
[8] Sudantribune.com.
(2017). Sudan’s RSF militia arrests 600 illegal migrants near Libyan and
Egyptian border - Sudan Tribune: Plural news and views on Sudan. [online]
Available at: http://sudantribune.com/spip.php?article59779 [Accessed 8 Dec.
2017].
[9] Sudantribune.com. (2017). Sudan’s SRF militia
arrests 1500 illegal migrants near Libyan border - Sudan Tribune: Plural news
and views on Sudan. [online] Available at:
http://www.sudantribune.com/spip.php?article61334 [Accessed 8 Dec. 2017].
[10] UN Security Council.
Report of the Panel of Experts on the Sudan established pursuant to resolution
1591, January 2015. [online] Available at: http://www.securitycouncilreport.org/atf/cf/%7B65BFCF9B-6D27-4E9C-8CD3-CF6E4FF96FF9%7D/S_2015_31.pdf
[Accessed 8 Dec. 2017].
[11] Human Rights Watch.
(2015). "We Stood, They Opened Fire" | Killings and Arrests by
Sudan’s Security Forces during the September Protests. [online] Available at:
https://www.hrw.org/report/2014/04/21/we-stood-they-opened-fire/killings-and-arrests-sudans-security-forces-during
[Accessed 8 Dec. 2017].
[12] Morgan, H. (2017).
Sudan's RSF unit accused of abuses against migrants. [online] Aljazeera.com.
Available at:
http://www.aljazeera.com/blogs/africa/2017/11/sudan-rsf-unit-accused-abuses-migrants-171117133237654.html
[Accessed 8 Dec. 2017].
[13] Radio Dabanga. (2017).
Sudan deports another 36 Eritrean migrants. [online] Available at: https://www.dabangasudan.org/en/all-news/article/sudan-deports-another-36-eritrean-migrants
[Accessed 8 Dec. 2017].
[14] AP News. (2017).
Backed by Italy, Libya enlists militias to stop migrants. [online] Available
at: https://www.apnews.com/9e808574a4d04eb38fa8c688d110a23d [Accessed 8 Dec.
2017].
[15] Final report of the
Panel of Experts on Libya established pursuant to resolution 1973 [1 June
2017]. UN Security Council. Available at:
https://reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/N1711623.pdf
[Accessed 8 Dec. 2017].
[16] Twitter.com. Federica
Mogherini (@FedericaMog) | Twitter. [online] Available at:
https://twitter.com/FedericaMog.
[17] EEAS - European
External Action Service. (2017). Speech by HR/VP Federica Mogherini at the
European Parliament plenary session on the recent developments in migration -
EEAS - European External Action Service - European Commission. [online]
Available at:
https://eeas.europa.eu/headquarters/headquarters-homepage/32002/speech-hrvp-federica-mogherini-european-parliament-plenary-session-recent-developments_en
[Accessed 8 Dec. 2017].
[18] Guengl.eu. (2017).
Press conference: Italy, the EU and their deal with Sudan to combat migration |
14 February 5.30pm - GUE/NGL - Another Europe is possible. [online] Available
at: http://www.guengl.eu/news/article/P10/press-conference-gue-ngl-delegation-to-sudan-findings-on-refugees-situation
[Accessed 8 Dec. 2017].
[19] Memorandum of
Understanding between Italy and Sudan: a legal analysis. (2017). HUMAN RIGHTS
AND MIGRATION LAW CLINIC of TURIN. Available at:
https://www.asgi.it/wp-content/uploads/2017/10/Report-Memorandum-of-Understanding-Sudan-Italy-SL-Clinic-UniTO.pdf
[Accessed 8 Dec. 2017].
[20] Sudantribune.com.
(2017). Sudan and Germany in joint cooperation to combat illegal migration - Sudan
Tribune: Plural news and views on Sudan. [online] Available at:
http://www.sudantribune.com/spip.php?article60551 [Accessed 8 Dec. 2017].
[21] Sudantribune.com.
(2017). UK, Sudan agree to strengthen cooperation on fight terrorism and human
trafficking - Sudan Tribune: Plural news and views on Sudan. [online] Available
at: http://sudantribune.com/spip.php?article63784 [Accessed 8 Dec. 2017].
[22] Sudantribune.com.
(2017). Sudan, UK sign agreement over British army participation in regional
drills - Sudan Tribune: Plural news and views on Sudan. [online] Available at:
http://www.sudantribune.com/spip.php?article64002 [Accessed 8 Dec. 2017].
[23] Gov.uk. (2017).
Embargoes and sanctions on Sudan – Government of the UK. [online] Available at:
https://www.gov.uk/guidance/arms-embargo-on-sudan [Accessed 8 Dec. 2017].
[24] Guengl.eu. (2016). EU
and Italian cooperation with Sudan on border control: what is at stake? Report
GUE/NGL Delegation to Khartoum, Sudan. [online] Available at:
http://www.guengl.eu/uploads/news-documents/Report_GUE-NGL_Delegation_to_Sudan_19-22.12.2016.pdf
[Accessed 8 Dec. 2017].
[25] Europarl.europa.eu.
(2017). European Parliament resolution of 16 November 2017 on freedom of
expression in Sudan, notably the case of Mohamed Zine al -Abidine (2017/2961(RSP)).
[online] Available at:
http://www.europarl.europa.eu/sides/getDoc.do?pubRef=-//EP//TEXT+TA+P8-TA-2017-0443+0+DOC+XML+V0//EN&language=EN
[Accessed 8 Dec. 2017].
[26] 1951 Convention |
Rights in Exile Programme. [online] Available at: http://www.refugeelegalaidinformation.org/1951-convention
[Accessed 8 Dec. 2017].
[27] EURACTIV.fr. (2017). Une force de renseignement UE-Afrique
contre la traite des migrants. [online] Available at:
http://www.euractiv.fr/section/all/news/une-force-de-renseignement-ue-afrique-contre-la-traite-des-migrants/
[Accessed 8 Dec. 2017].
Comments
Post a Comment