لماذا يضرب الأطباء يا ضياء ؟


لماذا يضرب الأطباء يا ضياء ؟

د. أمجد فريد الطيب 

عضو نقابة اطباء السودان 


(١)

كتب السيد ضياء الدين بلال رئيس تحرير السوداني، مقالا طويلا حكى فيه عن زيارته لمريض في مستشفى حكومي فوجد من مدير المستشفى ان الأطباء اغلبهم في إضراب. مقال ضياء عبارة عن مرافعة يتهم فيها الأطباء بجرثومة عدم الاخلاقية في إضرابهم الذي وصفه بانه سياسي. ويزعم ان نفس هؤلاء الأطباء لا يتغيبون عن اجنحة المستشفيات الخاصة، بما ينقل للمرضى ضرورة البحث عن مال للعلاج حتى يسقط النظام. ويلخص ضياء مقالته في ان الإضراب غير انساني وغير اخلاقي وان جرثومته تسربت للأطباء من النادي السياسي الذي يعاني شحا اخلاقيا مريعا بحسب تقييمه ويعتبر امن المواطن وصحته ومعاشه وسيلة لتحقيق المكاسب. ويدعي ضياء في نفس مقاله انه حتى في الدول الديمقراطية (المتقدمة كما وصفها) والتي تتيح حق الإضراب لا يضرب فيها الأطباء لأسباب سياسية. 


(٢)

حسناً، يبدو ان السيد ضياء لايفهم لماذا يضرب الأطباء وهو ما سأحاول افتراض حسن النية وتوضيحه له قدر استطاعتي، لكن الأدهى والأمر ان ضياء يدعي انه لا يفهم ماهية السياسة التي يرميها بألسِنة حداد، ويخلط بينها وبين ممارسات ساسة المؤتمر الوطني التي لا يمكن وصفها بغير الفساد، وهو الكاتب الصحفي السياسي لسنين طوال. فضياء يتعامل مع السياسة في مقاله كأنها مجال مفصول عن حياة الناس ومصالحهم وليست وسيلة الادارة المثلى لتحقيق هذه المصالح وخدمتها بما فيه الصالح الجمعي للناس. وضياء ليس غرا يافعا صغير السن، (وهولاء الغر اليفع وصغار السن هم في الشوارع الان يطالبون بحقوقهم الاساسية في وجه نظام غاشم يعتدي عليهم بكافة ادوات عنفه ووحشيته فيما لم يفتح الله على ضياء وصحيفته بكلمة في ذكرها ناهيك عن ادانتها) لم يرى من السودان سوى عهد الإنقاذ، لنفترض انه لا يعرف من السياسة سوى نموذج الفساد وسوء الادارة والسعي لخدمة المصالح الشخصية الذي يمارسه المؤتمر الوطني، وليس مقطوع الصِّلة بالعمل العام، لنفترض انه لا يعرف من السياسيين سوى سادة النظام الذي ما قدموا غير هذا النموذج الذي يسخر ادارة الدولة لمصالحهم وليس لمصالح الناس، ولا هو الرجل المشغول عن متابعة ما يجري في الدنيا والأخبار وهو رئيس التحرير البارز ليدعي انه لا يعرف ممارسة السياسة الراشدة في كل دول العالم الديمقراطية. ضياء يعرف أفضل من ذلك، ولكنه يدعي العكس. 

ضياء في الغالب يعلم الحقيقة البديهية ان بعض السياسة هو ادارة القطاع العام -ومن بينه القطاع الصحي- لخدمة الغالب الأعم من المواطنين ليس كخدمة تقدمها الدولة فحسب ولكن كحق للمواطنين دفعوا اجره للدولة في ضرائب وعوائد وقبول باحتكارها للعنف. وهذا الحق -في الصحة وفي بقية الخدمات الاجتماعية- هو استثمار طويل الأمد للامة والشعب في قوتها العاملة وصحة مواطنيها لتزيد إنتاجيتهم وبالتالي ثروات الدولة ورفاءها. هذا هو الأساس والهدف الرئيسي الذي يقوم عليه علم (السياسة الصحية ونظمه) يا ضياء، ولكن ما الذي يحدث في السودان، ويجعل الأطباء يضربون؟ 


(٣) 

يقسم الأطباء في بداية حياتهم العملية قسم ابوقراط والذي هو بصيغه المختلفة يمكن تلخيصه في مبدأين أساسيين: ان لا يقوم بفعل الطبيب اَي ضرر (Do No Harm) وان يقدم كل مساعدة ممكنة (provide all possible assistant). ولتنفيذ هذه الالتزامات يعمل الأطباء في مجال الطب الحديث من خلال أشراط النظام الصحي الذي يتكون من ستة مكونات (لبنات بناء) أساسية تلتزم بوضعها وإدارتها الجهة السياسية التي تدير الدولة (الحكومة يعني) وهي: ١) تقديم الخدمة؛ ٢)القوة العاملة الصحية؛ ٣)المعلومات والسجلات الطبية؛ ٤)توفر المنتجات الدوائية، واللقاحات والتقنيات؛ ٥)التمويل؛ ٦)والقيادة والحوكمة. وبدون الدخول في تفاصيل الشرح التفصيلي لماهية ومعنى كل واحد من هذه اللبنات، فالأطباء يشكلون جزءا من احد مكونات هذا النظام (القوة العاملة الصحية)، وتتضمن هذه اللبنة أيضا التزامات تطوير أداءهم وتدريبهم وتوفير المناخ المناسب لأدائهم لواجباتهم. فما الذي يحدث يا ترى في بقية هذه المكونات، يا ضياء؟


(٤) 

بشكل مرضي، (مريع أيضا) يتناقص صرف الدولة على النظام الصحي في السودان بما يؤثر على كافة أركانه ومكوناته. فقد خصصت ميزانية الدولة في عام ٢٠١٨ المنقضي مبلغ ٢ مليار ٩٤٢ مليونا لقطاع الصحة بكل مستشفياته وأدويته وكوادره وأجهزتهم ومستلزماتهم وغير ذلك، فيما خصصت نفس الميزانية ٢٣ مليارا و٨٨٨ مليون جنيه لقطاع الأمن والدفاع، بالإضافة إلى ١٠ مليارات و٧٠٥ ملايين إلى ما سمي بالنظام العام وشؤون السلامة، وبلغت ميزانية قوات الدعم السريع وحدها ٤ مليارات و١٧٠ مليون جنيه، اَي ما يقارب ضعف ميزانية الدولة المخصصة لصحة جميع السودانيين. فمن الذي لا يضع في أولوياته خدمة المواطن ورفاءه يا ضياء ؟! أليس هو الذي بيده القلم ؟

والمدهش في الامر، ان هذه الموازنة اعتمدت في ايراداتها بشكل اساسي على أخذ الأموال من المواطنين. فنسبة ٧٤٪ من ايرادات الموازنة السابقة كانت من الضرائب والرسوم المأخوذة من المواطنين، وهي المقرر لها ان تزيد هذا العام بنسبة ٥٠٪ بالنسبة للضرائب و٤٦٪ بالنسبة للإيرادات الجمركية وهو ما سيتسبب بدوره في ارتفاع اسعار كل شيء بدرجة اكبر. اَي بمعنى اوضح، ان الدولة تأخذ أموال المواطنين لتصرفها على نفسها وأمنها ومليشياتها وجيشها ودعمها السريع وقصرها الجمهوري ولا تعيدها لهم في شكل خدمات سواء في القطاع الصحي او غيره. هذه سياسة وسوء ادارة في السياسة كمان وليست اَي شيء اخر يا ضياء. والقاعدة الطبية الأولية التي يتعلمها الأطباء، ان اَي علاج فعال يودي للشفاء يجب أن يكون لمكمن الداء وليس لمجرد الأعراض. 

هذا فيما يخص التمويل، اما بالنسبة للقطاع الدوائي فلا احسب رئيس تحرير السوداني غافلا عن الازمة الدوائية الضاربة في البلاد والتي تسببت فيها سياسات الحكومة النقدية التي قادتنا الي هذا الانهيار الاقتصادي. حتى اصبحت أدوية منقذة للحياة مثل الاوكسيتوسين (السينتيسنون: وهو دواء يستخدم للولادة وهو منقذ للحياة لروحين الام والجنين) والانسولين (الذي يعتمد عليه مرضى السكري بشكل اساسي للحياة) ناهيك عن قائمة طويلة من المضادات الحيوية في الخط الاول والثاني للعلاج بل وحتى المحاليل الوريدية التي تشكل الخط الاول في اسعاف اي حالة طبية، معدومة بالكامل من السوق السوداني. وأدت محاولات الفهلوة الحكومية في معالجة هذه المشكلة لزيادة اسعار الأدوية بنسب تتراوح بين ١٠٠٪ الي ٣٠٠٪ حتى في تلك المصنعة محلياً مع استمرار الشح والانعدام. فكيف بالله عليك يا ضياء تتوقع من الأطباء ان يقوموا بالوفاء بأدوارهم في تقديم المساعدة وعدم فعل الضرر في هذه الظروف. وبالطبع فلن اتحدث عن مدى الانهيار في بقية مكونات النظام الصحي التي يغني فيها الحال عن السوال، ولا عن انعدام بقية مقومات لبنة الكادر البشري من تأهيل وتدريب ومراجع وغير ذلك والذي اصبح يعتمد على الاجتهاد الشخصي للطبيب لا غير. هذا هو بعض من الحال الذي يعمل فيه اطباء السودان يا ضياء. 


(٥) 

رمى ضياء من طرف خفي او لعله بائن الأطباء بالجشع المالي وأنهم لا يتغيبون عّن اجنحة مستشفيات القطاع الخاص. وأنهم يقولون للمرضى اذهبوا وتحصلوا على المال من اجل العلاج حتى سقوط النظام. وضياء هنا يقلب الآية تماما فحقيقة الامر ان النظام هو الذي يقول للناس ذلك. فهذا النظام الحاكم الان (نظام حزب الموتمر الوطني) كان اول من ادخل تحصيل الرسوم على الخدمة الصحية في مستشفيات القطاع العام في السودان في سنة ١٩٩١. قبل ذلك كانت هذه المستشفيات تقدم الخدمة والعلاج والدواء مجانا، اما الان فالمريض مطالب بدفع رسوم لدخول المستشفى، وشراء الدواء وفتح الملف وإجراء العمليات الجراحية بل حتى المحاليل الوريدية يطالب المريض بشراءها... الشيء المجاني الوحيد في المستشفى يا ضياء هو مقابلة الطبيب ... ولكن لن تستطيع ايضا مقابلته دون ان تدفع رسوم دخول المستشفى. وأضف الي ذلك ان التوجه الي الاستثمار في الصحة وخصخصة الخدمات الصحية هو التوجه الرسمي للدولة. وحين تنظر الي ان عدد المستشفيات الخاصة لم يتحاوز السبعة في كل السودان قبل عهد الإنقاذ وتنظر الي عددها الذي تجاوز ٣٥١ في الخرطوم وحدها في عام ٢٠٠٤ وما زال عددها يتزايد باطراد ... وبالرغم من ذلك تجد ان حجم القوة البشرية الصحية العاملة في القطاع الخاص لا يتجاوز ٩.٣٪ من القوة الصحية الكلية للبلاد. اكثر من ٩٠٪ من اطباء السودان يعملون في القطاع العام يا ضياء ... فعليه يصبح اتهامك هو من قبيل البهتان المبين.  ولكن النظر الي هذه الأرقام يجعلك تعرف من الذي يحول الصحة من حق للمواطن وواجب على الدولة واستثمار للامة في مستقبلها وقوتها العاملة... الي سلعة تباع وتشترى في سوق الله اكبر وتختلف في جودتها بحسب من يدفع اكثر او اقل. 

بالمناسبة... فان كل الأرقام الواردة فيما سبق هي من تقارير ووثائق حكومية منشورة علنا ولا تحتاج الي كثير من الجهد الصحفي من اجل التحصل عليها.

(٦) 

السياسة يا ضياء ليست عيباً حين تقوم باداء دورها في خدمة الناس وتحقيق مصالحهم. وما رميت به النادي السياسي السوداني من عدم اخلاقية ينطبق على سادة النظام الذي يسخرون موارد البلاد ومقدرات شعبها واهلها لمصالحهم الشخصية. فلعلك تناصحهم بقلم فصيح. اما بالنسبة للأطباء فان ما هو غير اخلاقي هو خداع الناس والكذب عليهم وما هو غير انساني بل يخالف قسمهم وشرف مهنتهم فهو القبول بهذا الوضع البائس الذي يتردى فيه النظام الصحي في السودان، والإيحاء الكاذب بامكانية تقديم اَي علاج فاعل او مساعدة حقيقية في ظل الأوضاع التي تحيط به. 


(٧) 

تم إرسال هذا المقال ايضا الي البريد الالكتروني لصحيفة السوداني التي يترأس تحريرها ضياء الدين بلال  alsudani2010@gmail.com والي البريد الخاص بضياء نفسه diaabilalr@gmail.com على أمل ان يلتزموا بقواعد وأخلاقيات المهنة الصحفية  ويقوموا بنشره في نفس الموقع الذي نشر فيه ضياء مقاله.

--
___________________
Amjed

Comments

Popular posts from this blog

Sudan: Tempus Vero, Veritas Liberabit Vos

العملية السياسية الحالية الى أين تمضي بالسودان؟

متاهة التحول الديمقراطي في السودان