ضرورة تطوير العملية السياسية الحالية لمواجهة مخاطر الواقع بدلا عن الغرق في التمارين الذهنية

ضرورة تطوير العملية السياسية الحالية لمواجهة مخاطر الواقع بدلا عن الغرق في التمارين الذهنية. 

امجد فريد الطيب




كشف الاستقطاب الحاد المتزايد بين الجيش وقوات الدعم السريع، وحالة التحشيد والتحشيد المضاد بالتصريحات والقوات العسكرية، عن خلل اساسي في تصميم العملية السياسية والتي قادت بشكلها الحالي الي زيادة مخاطر عدم الاستقرار بدلا عن معالجتها. وكذلك كشفت هذه التطورات عن خطل الاطروحة التي تبنتها عدد من الجهات الفاعلة في الوسط السياسي المحلي وفي اروقة المجتمع الدولي ان الازمة السياسية متعلقة بعدم التوافق بين الجهات المدنية، ولكن الوضع الحالي يثبت بما لا يدع مجالا للشك ان التنازع العسكري - العسكري هو الذي يشكل الخطر الاكبر على البلاد. 

  

بدون الدخول في الجدل حول جذور واسباب الخلل في تصميم العملية السياسية والذي جعلها محبذة بشكل اكبر لاحد شريكي الانقلاب وطرفي النزاع العسكري العسكري (الجيش وقوات الدعم السريع)، فان قضية صراع العسكر فيما بينهم على السلطة والنفوذ هي قضية لا تعني المكون المدني الذي يسعى للتحول الديمقراطي في شيء ومحاولة الاستفادة منها بدعم هذا الطرف او الاخر هو تكتيك قصير النظر لا يخدم التحول الديمقراطي ولا يدفع به للامام بل يزيد من مخاطر الاصطدام بين القوى العسكرية المختلفة في البلاد. ما يجب ان يعني الجبهة المدنية الديمقراطية بوضوح في هذا الجانب هو قضية اصلاح المؤسسة الامنية والعسكرية في السودان بغرض تكوين جيش مهني موحد يحافظ على امن البلاد ولا يتدخل في السياسة ولا الاقتصاد ولا بقية شئون ادارة الدولة والمجتمع. هذه القضية هي واحدة من اهم المهام التي ينبغي انجازها خلال الفترة الانتقالية حتى لا يهددنا شبح الانقلاب مرات اخرى او ربما ما هو اخطر في ظل تعدد وتناسل وتوازن القوى بين القوات العسكرية في البلاد. 


استمرار التعامل مع هذه القضية بالتأجيل والتجاهل مرة وبالوساطة بين برهان وحميدتي لتقليل حدة الخلاف بينهما كلما اندلعت حرب التصريحات والتحشيد بينهما تارة اخرى او بمحاولة الاستفادة واللعب على التناقضات بينهما تارة اخيرة، ليس مجديا. وكما ان الاستهبال السياسي بوضع هذه القضية كمجرد نقطة يتم التأشير عليها في التمارين الذهنية لورش العمل.  


صحيح ان عملية اصلاح القطاع الامني والعسكري هي عملية ذات جوانب تقنية وفنية تحتاج الي زمن الي انجازها، ولكن هناك قرارات ادارية في حالة توفر ارادة سياسية حقيقية يمكن البدء بها لدفع هذه العملية بشكل جاد. وهذه الارادة السياسية ينبغي ان تستند بشكل واضح ومبدئي الي التسليم بالمبادئ الاساسية والحقائق  الاتية: 

  • جهاز الدولة التنفيذي هو الجهة الوحيدة التي ينبغي ان تحتكر استعمال السلاح وادوات العنف الشرعي اللازم لحماية البلاد وتطبيق القانون وفرض النظام. هذه الادوات لا ينبغي ان تكون مستقلة عن الجهاز التنفيذي الذي هو تحت الاشراف المدني بطبيعة الحال. لا ينبغي ان تكون هناك اي قوات عسكرية مسلحة معزولة او منفصلة او مستقلة عن الجهاز التنفيذي الذي يدير كافة شئون الدولة. الدفع بان القوات المسلحة لا تقبل بان تكون تحت امرة حكومة انتقالية غير منتخبة، يدل على تشكيكها في شرعية هذا الانتقال ذات نفسه. شرعية الانتقال تأتي من شرعية الثورة التي يسعى البعض الي تناسيها. والحكومة التي تتوافق قوى الثورة على تكوينها هي حكومة ذات شرعية كاملة غير منقوصة، ينبغي ان تشرف على ادارة واصلاح وتطوير كافة اجهزة الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية. اي امر غير ذلك هو مجرد خضوع لمزايدات الانقلابيين وادعاءاتهم الانقلابية. 
  • عملية الاصلاح الامني والعسكري لا تعني مجرد دمج القوات العسكرية المتعددة في السودان في مكان واحد او تحت قيادة واحدة، وتسريح الفائض منها، هذا جزء من العملية ولكنه ليس كل العملية. هذه العملية تتضمن ايضا مراجعة قواعد عمل ومنهج اداء هذه القوات لعملها، ومراجعة مهامها وطرق تدريبها وتسليحها وانتشارها وغير ذلك من التفاصيل الفنية التي يجب الاتفاق عليها على اسس علمية وعلى اساس اهداف الامن القومي. تنفيذ هذه الاهداف وتنزيلها الي ارض الواقع ربما يكون متروكا للعسكريين باعتبار تخصصهم ومعرفتهم الفنية، ولكن تحديد هذه الاهداف والاتفاق عليها ينبغي ان يكون دور القيادة السياسية المدنية للبلاد. الساسة بحاجة الي الاجابة على السؤال (ماذا نريد ان يكون دور الجيش القومي الموحد في السودان؟). 
  • اي استخدام للسلاح في السياسة ينبغي تجريمه بشكل قطعي. وبالخصوص استخدام سلاح الدولة. العاملون بالقوات المسلحة هم موظفي دولة، يتلقون اجورهم ورواتبهم من اجل تنفيذ المهام الموكلة لهم وهي حماية الدولة ونظامها الدستوري، وليس الوصاية عليه.  
  • وجود قوات الدعم السريع وبقية المليشيات التي تخدم جهات سياسية محددة، هو وضع شاذ وامر غير طبيعي ينبغي انهائه على الفور. وهذا يبدأ بايقاف التجنيد المستمر والمتواصل الذي تقوم به قوات الدعم السريع وايضا الحركات المسلحة الاخرى التي وقعت على اتفاق سلام جوبا. قوات الدعم السريع نشأت كمليشيا سياسية في ٢٠١٣، داخل رحم هيئة العمليات وجهاز الامن السياسي للمؤتمر الوطني، واستمر ذلك الوضع لسنوات قبل ان يتم تتبيعها للجيش في ٢٠١٧. وبطبيعة الحال، تطورت عقيدتها السياسية المستقلة مع نمو طموح قائدها (حميدتي) حتى اصبحت ورقة ضغط سياسية يتم المناورة بها واستعمالها لتحقيق اهداف سياسية. هذا الضغط والمناورة لا يختلف كثيرا عن الانقلاب العسكري. هو شكل اخر لاستخدام السلاح في العمل السياسي. قد تأخذ التفاصيل الفنية لدمج وتفكيك واعادة هيكلة هذه القوات حيزا زمنيا (بالرغم من ان قوات هيئة العمليات قد تم حلها بين ليلة وضحاها). ولكن منع استخدام وجودها ككرت ضغط سياسي ينبغي ان يتوقف الان وعلى الفور. 

ان محاولة التفريط في اي من هذه القواعد الاساسية او التلاعب بها او مقايضتها في (سوق ام دفسو) السياسي الذي يجري حاليا، يعني القبول بتقنين الوضع الانقلابي. هذه القواعد هي حزمة واحدة لا تقبل التبعيض. والتجربة الانتقالية السابقة التي بدأت في ٢٠١٩ وانتهت بانقلاب اكتوبر ٢٠٢١ اثبتت خطل افتراض امكانية المساومة فيها والخطأ الفادح الذي ارتكبته القوى المدنية بقبولها بمبدأ الشراكة بالطريقة التي تمت بها. 


اذن ما الذي يمكن ان يتم الان في خضم العملية السياسية الحالية لتفادي مخاطر الحرب الاهلية التي لا يبارح شبحها من التلويح في الافق: 


اولا: ينبغي التوقف عن التعامل مع قضية تعدد الجيوش في السودان، كمجرد ازمة ذاتية بين البرهان وحميدتي يتم التعامل معها بالوساطة بينهما وتهدئة الاوضاع كلما ازدادت حدة تصريحاتهم. هذه القضية ليست قضية شخصية بينهما بل هي قضية وطنية في المقام الاول وينبغي التعامل معها على هذا الاساس. كلا الرجلين على رأس مؤسسات هي جزء من الازمة التي ينبغي اصلاحها، بل ان التأخر في اصلاح هذه المؤسسات خلال الفترة الانتقالية السابقة كان احد الاسباب التي ادت انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ بالاساس. التعامل مع هذه القضية على انها محض خلاف سياسي بين الرجلين، يغذي من اطماعهم الانقلابية في الاحتفاظ بالسلطة ويعترف ضمنا بوضع انقلابي شائه  (وهو ممارسة السياسة بالسلاح) والذي كان يفترض بالعملية السياسية ان تعمل على انهائه. 


ثانيا: كذلك ينبغي على القوى السياسية المدنية ان تخرج بموقف موحد حول حالة تعدد الاجهزة والقوات العسكرية التابعة للدولة في السودان. هذا الموقف ينبغي ان يتجاوز العموميات المتمثلة في شعار الجيش الوطني الموحد الي تفاصيل عملية حول طريقة تكوينه، واهدافه وتمويله وتمويل عملية تكوينه ايضا.هذه التفاصيل العملية تنقل النقاش حول هذه المهمة الهامة من حالة التجريد الي الاطروحات القابلة للتطبيق العملي. وهذا لن يحدث عبر تمارين التأشير على مربعات انجاز ورش الاطاري، بل يحتاج الي تلاقح حقيقي بين الروى السياسية المختلفة. وربما تكون الفرصة الحقيقية للقوى المدنية لخلق جبهة موحدة حول هدف يمكن ان يلقى اتفاق واسع عليه فيما بينها، ولكنه يتطلب في المقام الاول ان يتوقف الجميع ممن يحرصون على مستقبل الاستقرار وتحقيق الديمقراطية في هذا البلد من محاولة استغلال الاختلاف بين المعسكرات العسكرية لصالح تنفيذ اجنداتهم السياسية. تكوين جبهة تمدين الدولة في السودان هي الطريق الي وحدة القوى الثورية الوطنية في السودان. 


ثالثا: ينبغي الزام العسكر في المعسكرين بتعهداتهم السابقة، بالتوقف عن ممارسة السياسة. واصلاح جهاز الدولة بما فيه الموسسة العسكرية هي قضية سياسية في المقام الاول يشارك فيه العسكر بمعرفتهم الفنية. مخاطبة هذه القضية يجب ان يتم الان، واي محاولات لتأجيلها وتركها لما بعد تكوين حكومة الاطاري سيعني ترحيل الازمة الي المستقبل الي وضع تكون فيه العملية السياسية اضعف وخاضعة لتوازنات الامر الواقع باستقلالية الجيشين (الجيش والدعم السريع). 


رابعا: على المجتمع الدولي ان يدعم اسس تكوين دولة حديثة في السودان، وذلك بالضغط على الاطراف العسكرية التي يتعامل معها للقبول بعملية واضحة لتوحيدها واصلاحها، وليس العمل على تطييب النفوس، او الوصول الي توازنات ومساومات فيما بينهم لتأجيل مخاطبة القضية الي لاحقا. فهذا سيكون مجرد تأجيل لانفجار ازمة جديدة في السودان. الجزرة والعصا التي يتم استخدامهم حاليا للاهداف قصيرة الامد والتي لا تتجاوز اكمال الورش لتكوين حكومة، ينبغي ان يتم توسيع سياق استخدامهم لمخاطبة القضية الاكثر الحاحا في البلاد. 


هذه مجرد مقترحات مبدئية مطروحة للنقاش لعلها  تشكل مدخلا لاصلاح وتطوير العملية السياسية بدلا من المضي فيها قدما على اساس انها نهائية بينما هي مليئة بالثقوب. 

Comments

Popular posts from this blog

متاهة التحول الديمقراطي في السودان

حميدتي وقوات الدعم السريع: الموت حرفتي!

شبح ميونيخ: لماذا يجب رفض الاتفاق السياسي الذي يتم حاليا بين الحرية والتغيير والانقلابيين، وما هو البديل